Thursday, 21 January 2016

السرطان يتمكن



تداول الناس بعد مصرع الرئيس أنور السادات مثلا شعبيا وأسقطوه عليه فيما يتصل بتصالحه مع تيار التأسلم السياسي وعلى رأسه الإخوان المسلمون، إذ قالوا "لقد حضر العفريت ولم يفلح في أن يصرفه.. فقتله"...

ذلك أن الناس في عمق مصر يعتبرون تحضير العفاريت عملا سفليا غير مشروع، يدخل صاحبه في زمرة المشركين بالله وليس بعد الشرك ذنب، ولذلك تسوء خاتمة من يفعل ذلك لأن العفاريت الشيطانية تؤذيه ثم تقتله!...

وكم هو عميق ذلك الوجدان الشعبي ومتيقظ عندما قرن بين تلك الفئة وبين شياطين الجن!.. ولم ينصرف العفريت فعلا واستمر السرطان ينمو وينتشر في الجسد المصري بعد أن بدأت مقدماته، كما أسلفت في مقال الأسبوع الفائت، عند مطلع السبعينيات إثر نصائح فريق العمل الساداتي "عثمان، ومروان، وعويضة، وإسماعيل وأبو المجد" بالاعتماد على الجماعات الإسلامية لضرب حركة اليسار القومي والماركسي في الجامعات والنقابات المصرية، وضرب النويات الليبرالية التي بدأت تتجلى انعكاساتها في غير مجال كالمسرح والسينما.

وتسلم مبارك الحكم ليثبت أنه وبلا أدنى شك كان خطيئة السادات الكبرى، ورغم تداول الناس لعشرات النكت التي تتندر كلها على الذكاء المحدود لمبارك، وعلى جهله العصامي الذي أوصلته النكتة الشعبية للأمية الهجائية.

وأوصلته الرواية الشفهية التي سمعتها بأذني ومعي الزميل الأستاذ يحيي قلاش من الأستاذ الكبير الراحل أحمد بهاء الدين في مكتبه بالأهرام، عندما كان يسرد بعض تفاصيل أحد لقاءاته مع مبارك، ومنها تفصيل عن أنه وهو يحاول أن يلخص للرئيس ما يجري في جنوب لبنان وتحدث عن التكوينات الشيعية وإذا بالرئيس يظهر ثقافته العالية ويقاطعه قائلا: "تقصد الشيوعيين" ورد الأستاذ بهاء: "لا.. الشيعة"، فيرد الرئيس: "أنت هتحيرني ليه.. مش دول همه دول؟!" ويرد بهاء بهدوئه وصبره: "لا يافندم فيه فرق بين الشيعة والشيوعيين"!!

ناهيك عن التقدير العالي الذي كان يكنه مبارك لسمير رجب الذي ميزه عنده على بقية عموم المثقفين والصحفيين والمفكرين، أنه يكتب عشر مقالات في اليوم.. وأنه لا ينتظر إذنا من أحد ليشتبك مع خصوم مبارك الذي وصفه في هذا الجانب: "سمير راجل جدع أول ما بيشوف عركة بيقلع وينزل"...

وأذكر في ذلك اليوم الذي التقينا فيه الأستاذ بهاء أنه سألني بحكم أنني رد سجون: "يقصد إيه بيقلع وينزل".. ولم أفوت الفرصة لأسهب في معناها العملي في الأحياء الشعبية والحواري...

وعلى هذا نجد أنفسنا إزاء رئيس للجمهورية لا يعرف شيئا عن التكوينات الفكرية والثقافية، ومن ثم السياسية في المجتمع الذي يحكمه، ولأنه كان مهتما بالمال وربما الاقتصاد وكانت سياسات النهب الانفتاحي قد استقرت وترعرعت الفئة التي أثرت منها، وكان الصلح الساداتي ــ الإخواني الذي لم يلاحظ أحد إلا نادرا أنه تم وأصبح سمنا على عسل بالتزامن مع الصلح الساداتي ــ الإسرائيلي.

فقد ترك مبارك الحبل على الغارب للنمو الإخواني ولم يفلت الإخوان الفرصة فتغلغلوا في عدة قطاعات مالية واقتصادية، كالصرافة وتجارة العملة، وتجارة نصف الجملة في بعض المجالات، و"السوبر ماركتات" الاستهلاكية وسلاسل أخرى، وهلم جرا...

إضافة إلى أنهم عملوا على الحلول محل الدولة في أكثر من مجال من المجالات التي تمس احتياجات الناس مسا مباشرا، كالتعليم والصحة والمساعدات بالقروض الميسرة، وتعميم أفكار المعاملات المالية الإسلامية من صكوك ومضاربات وغيره!..

ووجدنا مصر في مواجهة حكم يدعي أنه يؤمن بالرأسمالية والاقتصاد الحر، فيما هو مستبد فاسد حتى نخاعه، ولم يكن لدى الاستبداد الفاسد بكل تركيبته ابتداء من القمة في القصر الرئاسي، حيث الأسرة الحاكمة والشماشرجية وصولا إلى أصغر موظف في جمعية زراعية، وما على غرارها في مختلف المصالح، أي مانع من القبول بالإخوان والسلفيين وكل ذوي المرجعية الدينية الذين هم بدورهم يكسبون ويراكمون المليارات وتأتيهم الإمدادات بغزارة من الذين يسعون لغسل ذممهم المالية أمام الله في بعض دول مجلس التعاون الخليجي.

وصار الإخوان والسلفيون منظري الأساس الفقهي الشرعي للكسب، حيث تسعة أعشار الرزق في التجارة، وأحل الله البيع وحرم الربا، ومال المسلم حرام مثل عرضه ودمه إلى آخر "النوتة" إياها..

وأصبح للاستبداد الرأسمالي اليميني الفاسد بل والفاجر جناحان، أحدهما الحزب الوطني والآخر الإخوان المسلمون والسلفيون.

لقد أمسكوا إذن بأحشاء مصر، ونفثوا في عقلها كل ترهاتهم لينشغل الناس بمصيرهم الأخروي وبمعايير الحلال والحرام، وكأن المصير الدنيوي اليومي ومعايير الصواب والخطأ والخضوع للقانون ومخالفته أمور تتنافى مع تقوى الله وحسن عبادته!

وبدأت الفضائيات التي تعلن عما يقوي الذكورة ويطيل وقت اللقاءات الحميمة تبث البرامج لعشرات من ذوي اللحى الكثيفة الطويلة المصبوغة بالحناء والشوارب الحليقة وغطاء الرأس الذي هو غترة أو شال أبيض بغير عقال..

وحل ابن حنبل وابن تيمية وابن عبد الوهاب والألباني محل كتاب الله وسنة رسوله واجتهادات الأئمة الثقاة الذين عاصرنا بعضهم، كمحمود شلتوت ومحمد محمد المدني وأبي العيون وصالح الجعفري وأبي زهرة والخفيف وغيرهم..

ووسط ذلك كله وفي ذروته كان الانصراف إلى التفسير الظاهري اللغوي لكتاب الله، والعمدة في ذلك هو الشيخ محمد متولي الشعراوي الذي لم يتورع عن أن يعلن على الملأ أنه بمكانته الفقهية الدينية مستعد لأن يمسك بركاب البغلة التي يركبها الرئيس السادات! وليعلن أيضا في مجلس الشعب عقب زيارة السادات للقدس أن الرئيس لا يسأل عما يفعل! ولم يكن متبقيا إلا أن يقول "وهم يسألون".

ووصل الجناح الإخواني المسؤول عن الغطاء الديني الأخلاقي للجناح الآخر الرأسمالي الفاشي اليميني الفاسد المستبد في الحزب الوطني إلى البرلمان، وبدأت الأظافر والأنياب تظهر مع قليل من التقية من قبيل عدم المساس بشخص مبارك ولا موقعه، والقبول بالتوريث لابنه!

إن ثمة تمييزا يقيمه البعض بين المسار الإخواني وبين مسار الجماعات الإسلامية والتنظيمات الجهادية، سوءا من حيث المنظومة الفكرية أو التكوين التنظيمي أو التوجهات العملية والممارسات الميدانية، ولكن الأيام كشفت مدى تهافت وزيف هذا التمييز.

ولذلك أذهب إلى أن الإخوان اعتمدوا خطة محكمة تقوم على "المرحلية" في تحقيق الأهداف، وعلى توظيف "أدوات" مرحلية أيضا وهم واثقون أن كل ما تقوم به تلك الأدوات من جماعات إسلامية وتنظيمات جهادية يحمل الفكر نفسه.

إضافة إلى أمر شديد الأهمية وهو حفز الإخوان لتلك الاتجاهات لمزيد من التطرف والعنف في مصر والمنطقة والعالم، لكي يقول الجميع: "والله الإخوان أرحم وأعقل وأرشد وليت الإخوان يأتون ليكون الإسلام الحقيقي هو السائد"..

وهو الطعم الذي وضعه الإخوان في كل السنانير ليصطاد كثيرين، منهم أكبر دولة في العالم.. أمريكا التي لديها مخابراتها ومراكز البحث إياها.


 نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 21 يناير 2016

Tuesday, 19 January 2016

الفئران لا تعرف التراكم


الترام البلجيكي في الإسكندرية

أبدأ بمدخل قد يراه البعض خفيفاً لا يتناسب مع غلظة ما نعاصره من أحداث وهموم، وقد يراه آخرون باباً من الكتابة لا يجب أن يضمر أو يختفي.

وعادة ما يتحفني السيد أحمد لطفي، الفيزيائي وخبير الطيران وأيضا الكاتب والقارئ، بفيض معلوماته، وعندما شكرته على ما سبق وأرسله حول قضية قبح البذاءة، رد وهو يحاول التواضع، فقال إن ما كتبه هو قطرات في نهر ما أكتب، ومن فوري- رددت- على البريد الإلكتروني "أن النهر بغير القطرات هو مشروع مستنقع"!

في المقال الفائت أشرت إلى "دوخة البلجيكي" التي نصف بها من يلف ويدور بحثاً عن شيء، أو للوصول إليه، وهكذا كان حالي فيما أبحث عن مثوى صحراوي قريب من القاهرة، وقلت إنني لا أعرف من أين جاءت تركيبة "دوخة البلجيكي"، فما كان من السيد أحمد لطفي إلا أن عاجلني بإجابة أظنها سليمة وشافية.

إذ أشار إلى أن دوخة البلجيكي جاءت من المسار الدائري الذي كان يسير فيه الترام بالإسكندرية، وكان الترام مصنوعا في بلجيكا، وحمل اسمها تمييزا له عن ترامات بجنسيات أخرى، وقال إنه كان مطليا باللون الأصفر، ولذلك ظل الإسكندرانية يسمونه "التراماي الصفرا"، وصار له قرابة نصف قرن يجري ببطء شديد كالسلحفاة العجوز، مخترقا أكوام الزبالة وعشوائيات المرور، ويقتصر مسار ذلك الترامواي الآن على حي محرم بك وعرفان مرورا بمحطة مصر وانتهاء بالمنشية والأحياء التي يطلق عليها الإسكندرانية "بحري"، ابتداء من شارع محمد كريم مرورا بسيدي المرسي أبو العباس والإمام البوصيري "الأباصيري"، ثم أحياء السيالة والأنفوشي وانتهاء بحدائق راس التين..

ثم أضاف السيد أحمد لطفي معلومة أخرى عن أصل كلمة "الزوفا" أو "الزوفة" التي نستخدمها بالعامية للدلالة على الكثرة العشوائية، ونسبها إلى ما جاء في كتب الطب القديمة لعلماء كابن النفيس الذي وصف النباتات الطبية وميز فيها بين أدوية مفردة وأخرى مركبة تتكون من عدة مكونات، وشاع اسمها الفارسي "الاقربازين" وكتب ابن النفيس مقالين عن نبات اسمه "الزوفا" بصنفيه "الرطب، والجاف"، وهو حشائش تتمدد أغصانها على الأرض بكثافة ملحوظة، ونظرا لصعوبة تقدير كمية حشائش الزوفا وصعوبة وزنها وتحديد مقدارها كان يتم التعامل معها بالجملة وبغير تقدير دقيق.. يعني بـ"الزوفا".

والشكر موصول ومؤكد لصاحب المعلومات المفيدة التي أضحت نادرة، إذ كثيرا ما نردد مصطلحات وتركيبات لغوية عامية أو فصحى في أحاديثنا اليومية دون أن نعرف أصلها، مثلما كتبت من قبل عن تعريف الكعب والكوع والبوع والكرسوع، والفرق بينها.

ومثلما هو أصل عبارة "سلقط وملقط" عندما نبحث عن شيء ولا نجده، وأصلها أن اعرابيا اشترى جرة "زلعة فخارية" ممتلئة عسلا وعاد لمنزله وأخذتها زوجته وخزنتها وبعد فترة طلب منها أن تأتيه ببعض من العسل، وإذا بها تميل الجرة فتجدها فارغة.. وهاج الزوج وماج وصاحت المرأة: لا أعرف أين اختفى أنه "ما سال قط وما مال قط" فصارت سلقط "سال قط" وملقط "مال قط" إذ لم يعرف الاثنان أن العسل قد يتحول إلى سكر فيلتصق بالوعاء ولا يسيل.

ومن الخفة إلى الغلظة إذ يحتدم تقطيع الهدوم بين "الينايريين" وبين "اليونيويين"، وبينهما وبين آخرين لا يعتدون لا بيناير ولا بيونيو ولا حتى بأي شهر من شهور السنة الميلادية.

وهو أمر أراه متسقاً تماما مع ما نشاهده ونتابعه ويضنينا الآن.. متسقا مع تقطيع الأعناق بين السنة وبين الشيعة.. ومع تفجير الأشلاء بين الدواعش وبين الناس، ومع تمزيق الخيوط بين دعم مصر وبين المستقلين والأحزاب في مجلس النواب، ومع الصراع الدموي بين "النقل أم مقطورة" و"التريللا" وبين بقية ذوات الأربع عجلات من ميكروباصات وملاكي وذوات الثلاث من تكاتك، وحتى صرنا نحتل المركز الأول في العالم في عدد ضحايا حوادث الطرق، ولله الحمد أن صرنا "الأول" ولو بالأشلاء والدماء!

ناهيك عن القسمة الخبيثة التي وزعتنا بين مدنيين وعسكر، وعن المبارزات الوهمية التي تتم بسيوف من صفيح بين من ينبشون في الركام للكلام عن الوقائع التي حدثت في أربعينيات القرن السابع الميلادي هل هي غزو أم فتح أم احتلال.. أي عن دخول العرب المسلمين لمصر!

وكذلك الحال عن المسجد الأقصى هل هو ذلك المشهور المتعارف عليه في مدينة القدس التي اسمها عند اليهود أورشيلم، أم هو بناء آخر في مكان بين المدينة وبين مكة، وهل هو أكذوبة أموية أو هو حقيقة أجمعت عليها الملايين!

فإذا أضفنا لكل ما سبق خناقات الإخوان الإرهابيين داخل صفوفهم.. وخناقات السلفيين بين حزبيين وجهاديين وخناقات الناصريين وخناقات الماركسيين والاشتراكيين، وخناقات مذيعي التوك شو، والمفاضلات بين محلب وبين خلفه، وما ظهر مجددا حول تخطيط من شفيق وعنان للتحرك ضد 30 يونيو في 30 يونيو؛ لأدركنا أننا حالة الدراسة التي حكت عنها الحكاية التي تقول إن واليا في زمن عتيق نادى وزراءه وطلب الى كل منهم أن يأخذ "شوالا" في الصباح المبكر ويملؤه بمائة فأر ثم يعود مع الغروب وعادوا جميعا خائبين إلا واحد منهم...

وسأل الوالي كل من وصلوا: لماذا لم تجمع ما أمرتك به؟ فكان الرد الموحد: كلما وضعنا فأرا في الشوال تمكن من قرضه وتمزيقه والهرب. حتى عاد الغائب يحمل على ظهره حمولته مكتظة حتى حافتها بالفئران وسأله الوالي: ماذا فعلت؟ فأجاب ببساطة: أمسكت بالفار الأول وصرت ارج الشوال حتى داخ تماما فأمسكت بالثاني واستكملت الرجرجة وهكذا حتى ملأته وكانت الفئران تظن ان كلا منها هو المتسبب في دوخة الآخر فاشتبكت في شجار متبادل استمر حتى انتهيت من مهمتي. وعندها رد صاحبنا: أصبت وأجدت.. فهكذا تحكم الشعوب!

وفي حالتنا أظن أن هناك إرادة أعتقد جازما أنها إقليمية ودولية عرفت ان عرب الإقليم جميعا ومصر أيضا لا بد أن يتم التعامل معهم بطريقة الشوال والفئران، ولذلك وبصدق شديد أقول: كان الله في عون من يقود البلاد الآن وهو يحاول الخروج من مأزق التناحر والاختلاف!

على ذلك فالسؤال الغليظ هو: متى نتخلى عن تحويل المحروسة الى شوال ضيق؟ وكيف نرفض أن نكون فئرانا داخت فاشتبكت وانهالت على بعضها البعض عضا وتمزيقا وأصابها ما أصابها لأنها لا تعرف معنى التراكم في الخبرات ولا التكامل في الأدوار، ولا الفرق بين اكتمال مقومات الانفجار وحدوثه وبين توظيف الطاقة الناتجة عنه؟ إذ كان ما جرى في يناير انفجارا اكتملت مقوماته ولكن قفز من وظف الطاقة الناتجة في اتجاه آخر تماما.

الفئران لا تتراكم خبراتها، وإن ثبت أنها تتعلم من الارتباط الشرطي.


 نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 19 يناير 2016

Thursday, 14 January 2016

مقدمات السرطان



ربما يؤيدني كثيرون في الاعتراف بأننا لم نتصور أن سرطان الإخوان والسلفيين- بجميع أنواعهم ودرجات وعيهم وعنفهم- قد انتشر في جسد المجتمع المصري على هذا النحو من التغلغل والاتساع، ولدرجة أن الدولة بكامل قوتها تخوض حرباً استطالت في مداها وتطورت في نوعيتها، ومازال السرطان يلتهم مقدرات الوطن قتلا وتخريبا ولا أحد يستطيع أن يحدد على وجه اليقين متى وكيف يتم الاستئصال، ناهيك عن متى وكيف وبمن يتم تحصين الجسد المصري ضد استعادة مسببات المرض فاعليتها!

في أي قراءة للظواهر عادة ما أميل– ربما بحكم الدراسة والتخصص– إلى المدخل التاريخي، الذي قد يفيد في التأصيل لجذور الظاهرة، ويرصد مسارها وتطورها، ويقرأ حاضرها، ليتمكن دارس السياسة من أن يرسم سيناريوهات مستقبلها، وليكون الجهد التاريخي والجهد السياسي في خدمة الممارس المعني بالشأن العام في الأحزاب والتنظيمات وغيرهما، وفي مساعدة صانعي القرار ومتخذه..

أي أن الهدف هو دوما ردم الفجوات بين الرؤى والدراسات العلمية وبين الممارسات على أرض الواقع، لأننا طالما دفعنا ثمنا فادحا لوجود تلك الفجوة واتساعها، خاصة إذا كان الحاكم من عينة اللص بحكم محكمة النقض النهائي البات محمد حسني مبارك، الذي طالما استخف بالمختصين علميا.

وما زلنا نذكر لقاءه مع المثقفين عندما وقف الراحل الكريم الدكتور محمد السيد سعيد وقال لمبارك كلاما علميا، ثم حاول أن يقدم له ورقة مكتوبة تلخص رؤيته العلمية، فإذا بالمتغطرس الجاهل وبطريقته المستفزة يرد: "خلي لك ورقتك وأنت عارف هتحطها فين!".. والمعنى معروف لكل من له علاقة بالثقافة الشعبية!

عند العام 1970 لم يكن للسرطان من هذا النوع وجود يذكر في مصر، وكانت مقاومته التي بدأت قبيل منتصف الخمسينيات تتجاوز المواجهات الأمنية الصارمة والمحاكمة وتنفيذ الأحكام القضائية النهائية، بما فيها الإعدام؛ إلى الإنجازات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وأيضا الانطلاق في دور مصر في دوائره حتى صارت رائدا ونموذجا تتجه إليه أفئدة الطامحين للحرية والتحرر من الاستعمار القديم والجديد، وازدهر المسرح والسينما والأوبرا والموسيقى والفنون الشعبية.

ولذلك انتفى وجود التربة الصالحة لإنبات الفئات التي يمكن لذلك السرطان أن يستشري فيها، رغم المساندات الخارجية الداعمة للإخوان والسلفيين في نطاق الدائرة العربية!

ثم انقلب الحال عندما تم رفع شعار "العلم والإيمان"، وبدأ التفكير في مواجهة القوى المدنية القومية واليسارية، وأيضا الليبرالية، التي كانت لا تكف عن مجادلة النظام في أمر تحرير التراب الوطني وأمر الحريات وأمر العدالة الاجتماعية، وتمخض التفكير عن استدعاء ما درجت تسميته بعد ذلك بالإسلام!

انقلب الحال مع تولي أنور السادات رئاسة الدولة، وأراد أن يبني له شرعية جديدة قبل أن تحدث شرعية انتصار أكتوبر، فاختار الشرعية المستمدة من المرجعية الدينية، وكأنه يشير للشعب بطرف خفي بأن من سبقوه كانوا غير مؤمنين!

كان الفريق الذي أصبح معروفا بعد ذلك أنه من كرّس الفكرة للسادات، يتكون على الأرجح من عثمان أحمد عثمان ذي الميول الإخوانية القديمة، ومحمد توفيق عويضة الذي كان معه في المؤتمر الإسلامي وكان أمينا لمجلس الشؤون الإسلامية، وبعض نواب الصعيد، وأيضا محمد عثمان إسماعيل الذي كان محافظا لأسيوط، وبالجملة انضم إليهم أشرف مروان الذي كان لفترة طويلة همزة الوصل بين السادات وبين كمال أدهم، الذي كان يحلو له أن يهين ذكرى الرئيس عبد الناصر في حضور زوج ابنته أشرف مروان!

وكنت شاهد عيان على بداية استدعاء الجماعات الإسلامية في الجامعة، حيث أقيم في فبراير 1972 ما سمي "اللقاء الإسلامي الأول" برعاية أحمد كمال أبو المجد، ردا على لقاء ناصر الفكري الذي كان الطلاب الناصريون قد أبدعوه ابتداء من سبتمبر 1971.

وكان حدثا فريدا اضطرت الدولة أن تتعامل معه بإيجابية، وكان السادات يرسل من يمثله للاحتفال بذكرى رحيل جمال عبد الناصر إلى أن قرر السادات أن يلتقي الطلاب الناصريين بنفسه، وكان ذلك يوم الخميس 20 سبتمبر 1973، وكنت آنذاك مع الصديق الراحل المهندس محمد الملاح ممثلين للدراسات العليا في اتحاد طلاب الجامعة، وكان رئيس الاتحاد الصديق نبيل صفا، ولأحداث ذلك اللقاء تفاصيل سأحيكها في وقتها.

وبدأ تسليح حركة التأسلم السياسي في الجامعة بالأموال والجنازير ومطاوي قرن الغزال، وكان أمير الجماعة في جامعة عين شمس طالباً في كلية العلوم، هو مصطفى راجح الذي قرر هو وجماعته اقتحام لقاء ناصر الفكري لتفجيره من داخله بتحريض من ذلك الفريق الذي ذكرت بعض أسمائه.

وكانت خطة التفجير تعتمد أطروحة نظرية تذهب إلى أن ناصر كان كافرا وأن الناصرية بالتالي كفر وأن القومية العربية عصبية نهى عنها الرسول صلى الله عليه وسلم، واستشهدوا بحديث معناه "اتركوها فإنها عصبية نتنة".

وما زلت أذكر تفاصيل الحوار الذي أدرته ومثلت فيه الجانب القومي الناصري، وكان الجو مشحونا متوترا، لأن الجنازير والمطاوي كانت جاهزة بالقرب من مقر الندوة، وبلغ التوتر مداه حتى أصيب الزميل والصديق المستشار الدكتور حمدي ياسين عكاشة- وكان آنذاك رئيسا لاتحاد طلاب كلية الحقوق- بالإغماء من هول الموقف!

ولم يفلحوا في شيء مما جاءوا لأجله، وكانت المفارقة المضحكة المدوية أن أميرهم حوصر فكريا وثقافيا ليبدأ الحضور- وكانوا بالمئات- في السخرية منه، فلم يملك إلا أن يسب الدين والملة.. دين وملة الحضور طبعا!

وتدريجيا، وبعد أن كانت الجامعة "تشغي" بالندوات والمؤتمرات حول تحرير الأرض والحريات والعدالة الاجتماعية، ومسرحها فيه أكثر من فرقة للتمثيل وأكثر من فريق للموسيقى، وللفن التشكيلي وللأدب شعرا وقصة، تقلص كل ذلك وبدأ اقتحام المدرجات للفصل بين الطلاب والطالبات وإيقاف المحاضرات عند الأذان.

وغير ذلك من المظاهر التي بدأت تتفاقم حتى وصل رئيس الجمهورية أنور السادات إلى أن يعلن في مواجهة بابا الإسكندرية "أنا رئيس مسلم لدولة مسلمة"، ثم وفي اجتماع علني للأعضاء المؤسسين للحزب الوطني بالإسكندرية قال عن نفسه "علمني ربي أنه لا يبدل القول لدي ولست بظلام للعبيد"!

وكان الناس أيامها يشاهدون مسلسلا تليفزيونا فيه شخص شرير اسمه "شرارة"، ولذلك ضجوا بالضحك عندما وجه السادات كلامه للحضور المنافق أمامه "أنتم شرارة العمل الوطني"!

إنها مأساة دامية فيها من الانحطاط أكثر بكثير مما فيها من صراع أساسه الفروسية، وكانت الهاوية التي سقط فيها الوطن كله وما زلنا نحاول الخروج منها، وكان السرطان الذي عفق خلايا الوطن، ولو أدرك السادات وصهره عثمان ومعه البقية أنهم سيرحلون وسيبقى الوطن لفكروا مليون مرة في أن الوطن شيء والنظام شيء آخر، وللحديث صلة.


 نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 14 يناير 2016

Tuesday, 12 January 2016

سؤال استنكاري!


كل وطن عند أبنائه لا يعلى عليه.. لا قبله أوطان ولا بعده، بل إن الأمور في هذا الشأن تتضاءل وتضيق إلى أن تصل لما قد يبدو ميكروسكوبيا قياسا على الوطن ذاته.

وسأضرب مثلا- بعد إذنكم- بنفسي إذ دخت دوخة البلجيكي ــ ولا أدري أصل المثل ــ وأنا أبحث عن قبر في مناطق شرق القاهرة، وزرت أكثر من مقبرة بالقرب من مدينة نصر وفي القطامية والعاشر من رمضان وخلافه، وتراوحت الأسعار عبر السماسرة من نصف مليون تقريبا نزولا إلى خمسين ألفاً غير أتعاب السمسار!

وفي كل ذلك كنت أجد رفضا داخليا عنيفا في كياني كله، إذ يتضاعف حنيني لقبرنا القابع في "ترب أبو الفتح" تحت أشجار الجميز وبالقرب من دارنا القديمة ومن ضريح سيدنا الشيخ إبراهيم بصيلة، وحيث يرقد أبي وأمي وأعمامي وجدتي، فيما بقية العائلة في "ترب أبو العبد" على بعد خمسمائة متر!

على ذلك فالحنين للوطن ولمسقط الرأس ومرقدها شعور لا يوصف بسهولة، ومع ذلك كله فإنني ممن يرون أن حياة الأوطان لا تزدهر بالمشاعر والحنين وفقط، وإنما بالعمل والعلم والثقافة وعمق الانتماء، وأيضا بتعلم دروس التاريخ والتعلم من مسيرة الشعوب الأخرى، وتلك الأخيرة هي مربط الفرس في هذه السطور، بعد المقدمة التي تبدو إنشائية إلى حد ما!

لقد سمعت وقرأت عن ذلك الذي خرج على الناس في برنامج تليفزيوني وأخذ ينتقد الأزهر وصار يصعّد الانتقاد حتى صار تهجما، وتحول التهجم إلى اتهام بالإرهاب الدولي..كل هذا مقدور عليه ويمكن التعامل معه باعتباره رأيا وموقفا لصاحبه ويمكن للأزهر أن يرد عليه.

ومن الأزهر تطورت المعزوفة إلى أن وصلت إلى أعلى درجات "الكريشندو" فتعاظم الصوت مع ملامح متجهمة عابسة! وكان الفتح غير المسبوق وهو أن العرب احتلوا مصر!

أما المسبوق فهو أن العبد لله ناقش الدكتور ــ دون معرفة يقينية بنيله الدرجة ــ سيد القمني في هذا الأمر، حيث كنا تحت خميلة الأشجار الوارفة بحديقة الصديق المشترك المهندس منير لطيف ـــــ نيح الله روحه ـــــ إذ كان صديقا كريما وفيا مترفعاً عن الخوض فيما يحتدم به الخلاف والاختلاف، وكان ذلك منذ عدة سنوات ويومها أغلظت القول ولم أعتذر!

وبداية يمكن أن نتكلم عن غزو عربي، مسقطين حكاية الفتح، لأن المؤرخين القدامى تكلموا عن غزوات ابتداء من بدر وانتهاء بآخر معركة تمت في حياة الرسول، وكان وصف الفتح من نصيب مكة وحدها بعدما دخلها الرسول وجيشه وحدث ما هو معروف للكافة.

ثم إن العالم كله ــــ وأقصد هنا العالم القديم أي أوروبا وآسيا وإفريقيا ــــ عرف حركات بشرية تمت في شكل هجرات كبيرة واسعة لبشر من مناطق إلى مناطق أخرى بحثا عن الموارد الطبيعية المطلوبة للحياة آنذاك "الكلأ ــ الحبوب ــ المياه"، وفي شكل حروب واسعة يغزو فيها بشر أرض بشر آخرين، وقد حدث ذلك بعد الميلاد، أي طيلة القرون الأولى إلى نهاية العصور الوسطى تقريبا.

وعلى سبيل المثال فقد تحركت القبائل الشمالية "الفايكنج" باتجاه بلاد أخرى كبريطانيا مثلا واستقروا فيها وتناسلوا، وتحركت القبائل التي اصطلح على تسميتها بالبرابرة ــــ قياسا على تحضر روما وإمبراطوريتها ــــ وقدمت من مناطق الاستبس إلى الإمبراطورية الرومانية واكتسحت جحافل الجرمان والهون والماجيار والسلاف والقوط بقية أوروبا خاصة أراضي الإمبراطورية وسقطت روما في سبعينيات القرن الخامس الميلادي، وظن المواطنون الرومان أنها نهاية العالم! ولم ينته العالم.

ثم إنني قلت للدكتور القمني ــــ وعلى مسمع من حضور عديد من الأصدقاء ـــــ أن هناك مثالا يكاد يقترب من الحالة المصرية.. وهو أن الإمبراطورية الرومانية كانت تضم بلاد الغال الرومانية التي امتدت من شواطئ المتوسط إلى القنال الإنجليزي، ومن الأطلنطي إلى نهر الراين والألب الغربية، وهي مساحة تضم فرنسا الحالية وبلجيكا وأجزاء من ألمانيا وإيطاليا (راجع الموسوعة البريطانية خريطة 'Romangaul' ومادة "Gaul geographic-historical scope").

ثم جاءت القبائل المتبربرة ومنها الجرمان وفيهم فرع رئيس منهم هو الـFrank، أي الفرانك الذين قادهم ملكهم كلوفيس الأول وغزا بهم بلاد الغال، خاصة المساحة المعروفة الآن بفرنسا، التي جاء اسمها من اسم القبائل ذاتها.. وكان يسكنها القوط الغربيون الذين دخلوا المسيحية واعتنقوا المذهب الأريوسي المنسوب لأريوس السكندري، حيث كان القديس أولفيلا قد ترجم الإنجيل وفق الرؤية الأريوسية ونشره في القبائل الرعوية إياها..

وتمكن كلوفيس من تغيير اسم البلاد من بلاد الغال الرومانية إلى فرنسا، وغيّر مذهبها من الأريوسية إلى الكاثوليكية، كما غيّر لغتها أيضاً، ومن تلك السلالة جاءت أسرتان عظيمتان في التاريخ الفرنسي الأسرة الكارولينجية والأسرة الميروفينجية.

وجاء منها الإمبراطور شارلمان العظيم الذي غيّر التاريخ السياسي لأوروبا عندما رفض أن يضع البابا التاج الإمبراطوري على رأسه، وأخذ التاج بيديه وتوّج نفسه.. وعندئذ أصبح الملك هو من يتوج نفسه، وانتفت السلطة البابوية في هذا المضمار!

إننا لا نجد أحدا عاقلا أو حتى مجنونا في فرنسا يخرج على فضائية أحد المليونيرات الذين عرف عنهم الإنفاق على بعض المثقفين ــــ وهذا أمر محمود ــــ ليقول على الملأ: بلاد الغال تعاني من وطأة الاحتلال الفرنسي، وأن كلوفيس الأول غاز محتل، وأن قبائل الجرمان ــــ ومنهم الفرانك وغيرهم ــــ برابرة أجلاف نقلوا ثقافة الرعي إلى أرجاء الإمبراطورية الرومانية ودمروا التراث الاغريقي ــ الروماني واستبدلوا بالإله زيوس والإله جوبتر وبالثقافة العظيمة ـــ بآدابها وفنونها ـــ ثقافة الأجلاف الرعاة الجرمان وغيرهم!

وبدلا من العويل واللطم وتفجير قضايا عفى عليها الزمن ولن تقدم شيئا للبناء والنهوض امتصت تلك المجتمعات القادمين وهضمتهم وتكلمت لغتهم واعتنقت مذهبهم الديني ومضت في طريقها لتراكم تاريخها وتصنع تحولاته الكيفية ليصبح التاريخ عندهم حلقات متصلة أثرت وتأثرت ببعضها البعض، وانتهى اسم بلاد الغال من الجغرافيا وإن بقي في التاريخ يدرسه المتخصصون ولا يبكي عليه المثقفون!

ومن عجب أن نجد الآن موجة غريبة تصاعدت طرطشتها لتشمل كلاما عن المسجد الأقصى وأنه ليس ذلك الذي يحتل وجدان الملايين من المعادين للعنصرية الصهيونية، كما يشمل كلاما عن الاحتلال العربي لمصر..

وكأن الوطن ناقص تمزيق وتفتيت، فانتقلنا من التمزيق والتفتيت على مستوى الدين والطائفة والمذهب والجهة والمستوى الاجتماعي إلى مرحلة تمزيق التاريخ وبث الألغام في مفاصل اتصال حلقاته.. لأننا لن نفاجأ بمن سيقول بالتالي إن المسيحية دخلت في ظل الاحتلال الروماني وأن مرقس الرسول لم يكن مصريا وأنهم دمروا ديانة مصر القديمة واستبدلوا الإله رع وآمون والبقية بإله آخر!

هل من الاحتياجات الأساسية لمصر الآن بث الألغام في مفاصل حلقات تاريخها؟ وهل من لزوميات البناء والنهوض الإنساني بوجه عام أن تفتش المجتمعات عن عوامل تفتيتها وإشعال بؤر الصراع العدمي في جنباتها؟

مجرد استفهام.. ولكنه بعد إذنكم استنكاري!


 نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 12 يناير 2016

Thursday, 7 January 2016

العدالة.. والأجهزة .. والنار



في حدود المساحة المتاحة أحاول التركيز في الكتابة عن مسائل ثلاث، الأولى عن العدالة فأتساءل عن إمكانية وصفها بالبطء أو بالسرعة، وهل هناك عدالة بطيئة وأخرى سريعة، ومن ثم يتساوى التقييم لتصبح العدالة الناجزة هي المقصودة، عندما نتحدث عن المدى الزمني اللازم لبقاء سيف الاتهام مسلطًا على رقاب الأنام..

وهنا أستحضر نموذج المهندس صلاح دياب الذي هال الجميع مشهدا ظهر فيه وهو مكبل بالقيود وحيدا بجوار سيارة الترحيلات، ثم أفرج عنه وصرح السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي بأنه لن يقبل بإهانة أو ترويع أحد من رجال الأعمال..

ومع ذلك بقي سيف الاتهام مسلطًا على عنق الرجل وابنه، بما في ذلك المنع من السفر ولم يقدما للمثول أمام قاضيهما الطبيعي ليفصل في شأنهما، لأن المنع من السفر عقوبة بحد ذاته..

أكتب عن ذلك المثال، لأن الأمر يمكن أن يتكرر مع آخرين ويجد المرء نفسه معلقًا دون حول منه ولا قوة، وعن نفسي فقد شربت من الكأس ذاتها، ولكن بطريقة أكثر قسوة عندما اتهمت في قضية الانتفاضة الشعبية الكبرى عام 1977، وكنت أحصل على استمرار الحبس مرات متوالية، عندما أتظلم أمام المحكمة.

وكانت آلية التنكيل أيام السادات هي أن حضرتك تتظلم في ظرف خمسة عشر يومًا، وينظر في تظلمك في ظرف الخمسة عشر يومًا التالية، وتحدد جلسة في الخمسة عشر التي بعدها، وتنزل إلى الجلسة في الخمسة عشر الرابعة، ويتم الاعتراض أو التصديق في الخمسة عشر الخامسة، وكانوا ينتظرون حتى اليوم الأخير من الخمسة عشر..وهكذا مرة بعد مرة ولشهور طويلة يبقى المرء حبيسًا في الليمان.

ثم جاء موعد نظر الموضوع وجلسات طويلة فيها مفارقات مضحكة ومبكية.. ثم أجلت القضية لأجل غير مسمى، وقد مضى على آخر جلسة حوالي ثلاثين سنة والقضية مؤجلة..

نعم العدالة هي العدالة لا بطء فيها ولا سرعة، لأنها يجب أن تكون ناجزة وفقط وبدرجة وجوب ألا يبقى مواطن بريئا حتى تثبت إدانته تحت سيف الاتهام بلا مسوغ.

المسألة الثانية هي ما قد أسميه مراحل سيناريو زعزعة الاستقرار في مصر من خلال بث كل ما من شأنه تكريس القلق والخوف والاختلاف في نفوس الناس، خاصة منهم الذين يتابعون ما يكتب وينشر.

فبعد حكاية "الانقلاب يترنح" بالتركيز على الجوانب الاقتصادية، وعلى وهم "التمرد" داخل قواتنا المسلحة الباسلة، ثم تكفل الأيام بتكذيب وتفنيد هذه الأوهام بدأت نغمة جديدة لفت نظري أن الذين ظهروا مقتنعين بها مروجين لها على "فيس بوك" هم من المثقفين الذين يتوقع منهم أن يمحصوا الأمور، وأن يناقشوها ليتبينوا مدى دقة المعلومات ومدى صدق التحليل ومنطقيته.

الكلام الدائر الآن في السيناريو الجديد هو كلام عن صراع بين المخابرات العامة والمخابرات الحربية، وكيف أنه متصل بصراع بين شخصيات كان بعضها طامحًا لرئاسة الجمهورية، ثم وبالطبع الحديث عن رئيس الجمهورية كمنحاز للجهاز الذي ترأسه لفترة.

ويمضي الكلام طويلا ليتخيل القارئ والمتابع أنه حقائق لكثرة ما فيه من معلومات ذكرتني بالصحفي الذي يمتلك صحيفة أسبوعية ويترأس تحريرها، وكان يفاجئنا بمانشيتات تقول إن الصحيفة كانت في قلب الاجتماع السري جدا المغلق في مقر الموساد ورئاسة الوزارة الإسرائيلية، ويبدأ في تقديم مادة معلوماتية غزيرة للإيهام بصحة اختراق حضرته للموساد شخصيًا..

غير أن المدقق في سيناريو الخلاف والصراع بين أجهزة الأمن في مصر، أي الأمن الوطني والمخابرات بشقيها الحربي والعام، يكتشف أنه سيناريو وهمي شبيه بما كانت تنشره الصحيفة إياها بقلم رئيس تحريرها..

ومع ذلك ورغم بؤس أصحاب هذه الترهات، إلا أن الأمر يقتضي تصديًا من نوع أو آخر لهذه الأمور.. وبالتالي سنسأل من يتصدى وكيف ومتى؟

وأظن أنني قدمت بعض الإجابة بهذه السطور.. إذ الكل الوطني ابتداءً من الأجهزة المعنية، ثم أصحاب الرأي والكتاب، بل والصحافة والإعلام بوجه عام مطالبون بدور في المهمة.

أما المسألة الثالثة التي أود التطرق إليها فهي ما اشتعل تحت لافتة "السنة.. والشيعة"!! وأبدأ بتساؤل على طريقة جدتي، عندما كانت تصيح قبل أن تسأل السؤال الاستنكاري: "يا مثبت العقل والدين يا رب.. ألم أقل خلوا بالكم من كيت وكيت.. أروح فين يا هوه"؟!!

وفعلاً يا مثبت العقل والدين يا رب، ألم يتم الإعلان مرة وعشرا ومليونا، وتمت الكتابة بكل لغة منذ فترة طويلة تعود على الأقل لمنتصف السبعينيات بعد نصر أكتوبر الذي لعب فيه التضامن العربي دورًا غير منكور عن أن الصراع المقبل سيكون دينيًا ومذهبيًا وطائفيًا في المنطقة، وأنهم سيشعلون النار بين قوس شيعي وحائط سني، وأن ذلك ضمن سعي للتفتيت والتجزؤ.. تفتيت المفتت.. وتجزؤ المجزأ..

وأن الأمر بدأ مبكرًا في مفارخ خبيثة ادعت أنها مراكز بحثية ومعاهد علمية أنتجت كلامًا عن صراع الثنائيات في المنطقة كالصراع بين الدين وبين العلم.. وبين التدين وبين العلمانية.. وكذلك بين الأصالة وبين المعاصرة ثم بين التقليد وبين الحداثة، ثم بين الخصوصية الثقافية وبين متطلبات العصر كالديموقراطية والحرية وغيرها وهلم جرا.

وبدأت الندوات والمؤتمرات والمناظرات تنعقد، وظهر ما يسمى بالإسلام المستنير الذي انضوى تحت لافتته من تبين أنهم بعد ذلك من الخلايا الحية للإخوان!!

وبعد صراع الثنائيات الفكرية وتمزيق العقل العربي والوجدان الإسلامي دخلنا في صراع الثنائيات المذهبية بين سنة وبين شيعة وداخل السنة بين سنة محافظة وأخرى جهادية، وثالثة مجددة ورابعة صوفية وهكذا..

أما داخل الشيعة فليس الأمر واحدًا كما يظنون، لأن الخلاف قديمًا يشتعل أواره بين حين وآخر بين زيدية واثني عشرية وكيسانية وباطنية وخلافه.

ثم دخلنا في مراحل أخرى أحالت كل التكوينات الحضارية الاجتماعية التي تشكلت عبر مئات إن لم يكن آلاف السنين مثل سوريا ومصر إلى عناصرها الأولية التي لا يمكن أن تحل محلها كما هو الأكسجين والأيدروجين لا يمكنهما منفصلين أن يحلا محل الماء!

رحم الله أيامًا كان فيها من يسعى للتقريب بين المذاهب.. وكان فيها من يناظر بسلاسة وسلاسة ويسر كما سجله كتاب المراجعات، وكان فيها الشيخ محمود شلتوت الذي دفع طلاب الأزهر ليدرسوا المذهب الجعفري وحسم مسألة التعبد به!

هل نترك النار لتأكل بعضها ونحن جميعًا وقودها.. أم نحمل الخراطيم والجرادل والجرار والرمل والتراب لإطفائها؟!


 نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 7 يناير 2016

Tuesday, 5 January 2016

عيد الميلاد المجيد



في بيت لحم وُلِد، وإلى مصر انتقل وهو بعد طفل بصحبة أمه العذراء الطاهرة المصطفاة على نساء العالمين وخطيبها يوسف، وفي مصر وجد الأمن والأمان وباركها وظهرت المعجزات في كل مكان حلّ فيه، وبقي في مصر إلى أن زال الخطر في فلسطين:
".. إذا ملاك الرب قد ظهر ليوسف في حلم قائلا قم وخذ الصبي وأمه واهرب إلى مصر وكن هناك حتى أقول لك، لأن هيرودس مزمع أن يطلب الصبي ليهلكه. فقام وأخذ الصبي ليلا وانصرف إلى مصر وكان هناك إلى وفاة هيرودس لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل من مصر دعوت ابني" إنجيل متى الإصحاح الثاني 13 - 15.

هذه هي العلاقة بين مصر وبين فلسطين... الأولى ملاذ وأمن وأمان ورعاية ونهوض بالرسالة، حيث كانت الإسكندرية وبقيت وستبقى أحد الكراسي الرسولية الخمسة، وكانت كنيستها وستبقى رقما صحيحا مهما في مسيرة الهداية والمحبة والسلام.

مصر وفلسطين حيث المسيرة أقدم من ذلك، إذ كانت مصر من قبل ملاذا لأبي الأنبياء إبراهيم الخليل وزوجه سارة، ومن مصر كانت هاجر التي أنجبت لإبراهيم ابنه إسماعيل، الذي تحدث عنه العهد القديم في سفر التكوين، وأكد أنه سيصبح أمة عظيمة.. وقد أصبح كذلك بعد أجيال متعاقبة من نسله ببعثة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام!

وكانت مصر ملاذا لفرع يعقوب بن إسحق بن إبراهيم- عليهم السلام- إذ وجدوا الزاد والمأوى أيضا وأصبح واحد من أبناء يعقوب مسؤولا عن اقتصاد مصر، وهو سيدنا يوسف!

ثم كانت مصر مستقرا للنبي موسى، ومهداً لدعوته وأرضا تلقى عليها الألواح.. الوحي الإلهي، ولم يفقد الأمان فيها إلا بعد أن أقدم على قتل أحد المصريين عندما تحمس لواحد من إخوانه اختلف أو تشاجر مع مصري!

وبعد موسى وأمه وأخيه وقومه، كانت مصر في استقبال الأسرة المقدسة، ثم جاءها أيضا من المدخل الفلسطيني آل بيت النبي- صلى الله عليه وآله- ليجدوا فيها الأمن والأمان، بعد أن نكل بهم المنحدرون من أبي سفيان بن حرب وهند بنت عتبة- آكلة كبد حمزة بن عبد المطلب، شهيد أحد وعم الرسول- أرأيتم كيف هي المحروسة بأهلها وحضارتها وتاريخها وأيضا بالأسر الخمس المقدسة؟!

ويعود الطفل- له المجد- إلى فلسطين، لتبدأ مسيرة حافلة يمثل هو فيها وتلاميذه والمؤمنون طرفاً ويمثل الكهنة والفريسيون اليهود والسلطة الرومانية طرفا آخر..

وكلما مضت دعوته واتسع مجالها ازداد حقد الطرف الآخر، وهي مسيرة فيها من المعجزات والنبوءات وأيضا من المنطق المفحم ومن الحسم ما يجعل المرء يتأمل مرة واثنتين وعشرا بغير توقف، ليعرف ان المعاناة والسعي والصراع كأس يشرب منها كل المؤمنين.. حتى كلمة الله وروح منه!

ولأن الشيء بالشيء يذكر، وقبل أن أمضي في تأمل المسيرة الطاهرة للسيد له المجد فإنني تأملت حكاية التجسد، وأدركت عبر الشواهد في الإنجيل وفي القرآن وفي السيرة النبوية أن التجسد أمر وارد.

فها هو روح الله يتجسد للعذراء لتحمل في ابنها، وهذا ما جاء في الإنجيل وفي القرآن الكريم..

ثم إنه في السيرة النبوية فإن رواية تقول ما معناه أن الرسول- صلى الله عليه وسلم- كان جالسا مع أصحابه ودخل عليهم رجل بهي الطلعة شديد الوسامة وجلس أمامه وسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان، وأجابه- صلى الله عليه وسلم- وكان الضيف يشبه رجلا له السمات نفسها اسمه دحية الكلبي، فلما انصرف وتساءل الصحابة أجاب الرسول بما معناه أن هذا أخوكم جبريل جاء يعلمكم أصول دينكم!

وأعود الى المسيرة الطاهرة لأقف طويلا أمام الموعظة على الجبل، التي تحتوي على منظومة متكاملة أخلاقية وتربوية واجتماعية وتشريعية..

ولطالما اقتبست أجزاء من تلك الموعظة في مقالات سابقة
ثم إنني قرأتها كاملة على أسماع طلاب كليات الهندسة والصيدلة وإدارة الأعمال في جامعة هليوبوليس، عندما دعاني الصديق الدكتور إبراهيم أبو العيش رئيس الجامعة لإلقاء محاضرات في الأبعاد الحضارية والثقافية للتكوين المصري، وحيث كان ذلك إحدى السبل لتحصين الطلاب، خاصة في الكليات العملية، من آفة التطرف الطائفي والمذهبي.

وحرصت على أن تكون المحاضرات حول ماذا قدمت مصر للبشرية عبر تاريخها الطويل، وكيف هي الضفائر المصرية، وكيف دخلت المسيحية مصر وماذا عن الإنجيل وعن مسيرة السيد المسيح!!

في المسيرة التي نتحدث عنها نكتشف ان السيد المسيح- له المجد- امتلك منطقا مفحما لأعداء الإيمان والحقيقة، فذات مرة جاع تلاميذه يوم سبت فأخذوا يقطفون سنابل القمح ويأكلون، وعندئذ حاول الفريسيون الاصطياد فقالوا له: "هو ذا تلاميذك يفعلون ما لا يحل في السبت"!!

وأجاب من فوره: "أما قرأتم ما فعله داود حين جاع هو والذين معه.. كيف دخل بيت الله وأكل خبز التقدمة الذي لم يحل أكله له ولا للذين معه بل للكهنة فقط، أوما قرأتم في التوراة أن الكهنة في السبت في الهيكل يدنسون السبت وهم أبرياء؟ ولكن أقول لكم إن ها هنا أعظم من الهيكل. فلو علمتم ما هو.. إني أريد رحمة لا ذبيحة لما حكمتم على الأبرياء، فإن ابن الانسان هو رب السبت أيضا" متى الإصحاح الثاني عشر 3- 8.

ثم تعالوا نتوقف عند هذه النبوءة التي تتحقق منذ سنين على يد الصهاينة اليهود، فالمسيح تنبأ بصراخ الحجارة في فلسطين.

عندما خرج الناس يفرحون ويسبحون وهو مقترب من منحدر جبل الزيتون متجها الى أورشليم، وطلب إليه الفريسيون أن ينهر هؤلاء الفرحين المسبحين، فأجاب: "أقول لكم إنه إن سكت هؤلاء فالحجارة تصرخ"، ثم نجد أنفسنا إزاء إعجاز عظيم إذ "وهو يقترب نظر الى المدينة وبكى عليها قائلا: لو علمت أنت أيضا حتى في يومك هذا ما هو لسلامك. ولكن الآن قد أخفي عن عينيك فإنه ستأتي أيام ويحيط بك أعداؤك بمترسة ويحدقون بك ويحاصرونك من كل جهة ويهدمونك وبنيك فيك ولا يتركون فيك حجرا على حجر لأنك لم تعرفي زمان افتقادك" لوقا 26ــ40.

تهنئة من القلب لشعب مصر بعيد الميلاد المجيد وتحية لكنيستنا الوطنية.


 نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 5 يناير 2016