لست ضد حرية أن يجعل البعض من الدولة الصهيونية
نموذجًا يجب على كل من يريد التقدم أن يضعه نصب عينيه، وكلما تاحت فرصة للاستعانة
بخبراء من النموذج فيجب ألا تفوت، بل إنه يتعين السعي بكل الوسائل للاستعانة بهذه
الخبرة، بل يشاع أن البعض قد أتى بخبراء من هناك - ولن أستخدم استجلب لأنه مصطلح
سيئ السمعة يرتبط بتجارة الرقيق - وقرر أن يستفيد بوجودهم بتأجير خبرتهم من خلاله
لآخرين.
ولست ضد أن يستل البعض سيوفهم لذبح من يحاول أن
يفتح سجلات التاريخ ويتوقف عند المراحل الدامية من وجود الحركة الصهيونية، وحتى
بعد تحولها لدولة لن تتوقف عن ممارسة العنف الدموي، وعن مخالفة القوانين والأعراف
الدولية، حتى وإن كان العبد لله أحد هؤلاء الذبحى!!
ما أود التوقف عنده واللجاجة فيه هو لماذا لا
نلاحظ من قريب أو من بعيد محاولة جادة من جانب عشاق التجربة الصهيونية لكي يقتدوا
بها في عملية بناء المجتمع وتشييد الدولة؟!
وبالطبع سيكون هزارًا سخيفًا وثقيلاً وماسخًا
إذا طالبت نخبة المنبهرين المطالبين بما سبق وذكرته أن يبدأوا بعقد مؤتمر على غرار
مؤتمر بازل، وأن يسعوا لدى الدول العظمى للاعتراف بهم كحركة صهيونية مصرية، ثم
ينتقلوا لمرحلة تالية هي تكوين حركات مسلحة على غرار "شتيرن"
و"أرجون" وغيرهما من الحركات التي حملت السلاح، وأجهزت على الوجود
الفلسطيني المغتصب لأرض إسرائيل التاريخية.. وبعد ذلك يتجه إخواننا الموقرون إلى
حرب تحرير على غرار ما جرى في 1948 وهلم جرا، ويضربون عرض الحائط بكل القوانين
والاتفاقيات والمعاهدات من أجل مصر التي يريدونها على غرار "إسرائيل"!..
نعم سيكون مزاحًا ثقيلاً وتزيدًا في غير أوانه أو موضعه!
طيب.. ما أود التوقف عنده هو لماذا تمت وتتم
الاستعانة بالخبراء والنماذج الصهيونية في مجال تعظيم الربح الخاص في مجالات
الزراعة والهندسة الوراثية الزراعية، وبعض نظم الري، وربما بعض الأنشطة
الاستخراجية، ولم تتم الاستعانة بالنموذج الصهيوني في ناحيتين: الناحية الأولى هي
التعليم والبحث العلمي، والناحية الثانية هي التماسك الاجتماعي وتذويب العقبات بين
فئات قدمت من أماكن ومجتمعات وثقافات مختلفة لكي تنصهر في بوتقة واحدة هي الدولة
الصهيونية، ومن أجل هدف واحد هو قوة الدولة وتفوقها المطلق على كل جيرانها في
المنطقة؟!
لقد سبق وكتبت منذ شهور حول نماذج رأسمالية
بذاتها ساهمت في تطور البشرية، وأخرى في بناء واستقرار مجتمع بذاته، وسقت مثالاً
على النموذج الأول، نموذج تطور البشرية بأسرة ميدتشي الإيطالية، ولفت الانتباه إلى
الأمير لورنزو العظيم، وأشرت إلى بداية النهضة الأوروبية العظيمة العملاقة من
توسكانيا وفلورنسا، وكيف أن لورنزو قال علنًا إنه لو استلزم الأمر أن أبيع كل أثاث
منازل آل مديتشي لكي أستكمل بناء المكتبات وتزويدها بالكتب في توسكانيا وفلورنسا
لما تأخرت!.. ثم سقت مثالاً آخر على النموذج الثاني، وهو أسرة روتشلد التي أنجب مؤسسها
خمسة أبناء وزعهم على ألمانيا وفرنسا وهولندا وبلجيكا وإيطاليا، وكان من سلالتهم
أبو المستوطنات الصهيونية جيمس صمويل روتشلد، الذي تبرع بملايين الجنيهات
الإسترلينية لاستقدام المهاجرين اليهود إلى إسرائيل وتوطينهم، وتقديم كل ما يلزم
لذلك، وكان يرفض أن يذكر اسمه على أي عمل، مكتفيًا أن يشار إليه بأنه "فاعل
خير"!
اليوم أتساءل لماذا لم يقدم الأفذاذ من
الاستراتيجيين والرأسماليين، الذين لا يتوقفون عن تعظيم التجربة الصهيونية،
واعتبارها المثل الأعلى، على السعي لتأسيس جامعتين مثل التقنيون
"التخنيون".. والجامعة العبرية!
التخنيون الذي حصل اثنان أو أكثر من علمائه على
نوبل تأسس بجهد مدني خاص من مجموعة صهاينة قبل قيام الدولة بنحو ربع قرن، إذ تم
تأسيس معهد التخنيون "التقنيون" عام 1924، وكان مقره الأول هو ما يعرف
اليوم بمتحف العلوم والتكنولوجيا والفضاء، ثم نقل إلى موقعه الحالي عام 1953 على
جبل الكرمل، ويطلق على المكان نسبة للحيز الكبير الذي يشغله "قرية
التخنيون"، وأنا أنقل هنا من موقع على "النت" أنشأته تلك الجامعة
التي تعتبر الجامعة الأولى في البلاد، من حيث المستوى التعليمي في مجالات العلوم
والهندسة بمختلف فروعها والطب.. ولمن يريد الاستزادة لمعرفة أكثر عن الجامعات
والتعليم في الدولة الصهيونية فليدخل على "النت"، وسوف تنهمر أمامه
المعلومات عن كل شيء، ابتداءً من شروط القبول وتنوع الكليات والجو التعليمي والجو
الاجتماعي، وعن العيش في حيفا نفسها، من حيث المناخ والمواصلات وتكاليف المعيشة
والتركيبة السكانية وأماكن الترفيه!
ثم إن الجامعة العبرية أيضًا هي في بدايتها جهد
مدني خاص، إذ تأسست في القدس عام 1925، أي بعد التخنيون بسنة وتعرفها المصادر
بأنها "جامعة إسرائيلية جماهيرية في مدينة القدس، تأسست أيام الانتداب
البريطاني بمبادرة الحركة الصهيونية، وتتربع تلك الجامعة على عرش المؤسسات
الأكاديمية في إسرائيل، ومن علمائها من حاز على نوبل أيضًا وتصنف في المرتبة
الرابعة والستين على مستوى العالم، وفق تصنيف شنغهاي.. ويأتي تمويلها من قبل
الدولة هناك، إضافة - وهذا مهم جدًا - إلى التبرعات وأرباح بيع الكتب ومنح حقوق
نشر على أبحاث، ومن أهم المصادر المالية المتوافرة للجامعة يأتي بيع تصاريح
لاستخدام اسم ألبرت أينشتاين وصورته بموجب وصية أينشتاين، الذي نقل الحقوق على
استخدام اسمه وصورته بعد وفاته للجامعة".. وأيضًا فإن من يريد الاستزادة فله
أن يرجع إلى الإنترنت فهناك معين لا ينضب!
وأعود إلى السؤال الذي أطرحه جادًا للذين أراهم
منشغلين إلى أقصى حد، وبصورة أضحت كاريكاتورية مثيرة بأمرين، الأول هو تعظيم
النموذج الصهيوني ودولته، باعتباره ما يجب على كل من يريد التقدم والتطور
والإنجاز، وكل ما هو في هذا السياق أن يقتدي به ويستعين، والثاني هو الدأب في
تحطيم الصورة الذهنية لدى القطاعات الواسعة من الناس حول الحقبة الزمنية من 1952
إلى 1970 ورمزها جمال عبدالناصر، وكأنه مازال موجودًا، وما يجعله أمرًا
كاريكاتوريًا هو أننا قد نضحك ونسخر لو كنا في عام 1973، ووجدنا من يخصص مساحات منتظمة
في الصحافة ليهاجم سعد زغلول، لأن المسافة الفاصلة بين رحيل الزعيم سعد زغلول وبين
1973 هي 46 عامًا، هي نفسها التي تفصل زمننا الآن عن رحيل جمال عبدالناصر!!
تخيلوا مثلاً أن الأستاذ أحمد بهاء الدين أو
الأستاذ هيكل ومحمد زكي عبد القادر وغيرهم خصصوا أعمدتهم ومقالاتهم عام 1973
لتحذير الناس من سلبيات سعد باشا ومخازيه!! أو العكس انطلق من يخصص مساحته لتعظيم
سعد باشا وذكر مآثره وكراماته!.. سيكون الأمر مضحكًا لا شك!
لم نجد استراتيجيًا من الذين يجلدوننا بعظمة
التجربة الصهيونية قد أخذ زمام المبادرة والمبادأة ليحفز الرأسماليين، الذين
يتفقون معه في رؤيته كي يؤسسوا لحركة صهيونية مصرية، ولكي ينشئوا التخنيون المصري
والعبرية المصرية!!
وفارق كبير.. كبير.. كبير بالثلاثة بين أن تعبد
نفسك فتعظم ربحك المالي وبين أن تعبد وطنك أو فكرتك فتكون كالأمير لورنزو العظيم
الذي أسس النهضة الأوروبية أو كواحد من آل روتشيلد، الذين أسسوا ومولوا ورعوا بناء
الدولة الصهيونية.. أو كالمجهولين الذين لا تذكر أسماؤهم من مؤسسي معهد التخنيون
والجامعة العبرية وشالوم على الجميع!
نشرت في جريدة المصري
اليوم بتاريخ 7 سبتمبر 2016.
No comments:
Post a Comment