رغم مرور ما يقرب من نصف قرن
على رحيل جمال عبد الناصر، إلا أن محاولات اغتيال شخصيته ما زالت مستمرة لا
تستهدفه هو بقدر ما تهدف إلى تقطيع أوصال الترابط بين حلقات النضال الوطني المصري،
وإلى الوقيعة بين مراحل مشروع النهوض المصري المرتكز على الحفاظ على الدولة المصرية
وتمتين أسسها، ثم تقديم نموذج «رأس الذئب الطائر»، لترويع القيادة الوطنية الحالية
والحيلولة بينها وبين أن تكون حلقة متقدمة ومرحلة متممة لكل من النضال الوطني
ومشروع النهوض المصري!
وفيما يحرص أصحاب تلك المحاولات على أن يكونوا
استمرارًا لأسلافهم، الذين اعتبروا أنفسهم أصحاب المصلحة الحقيقية في مصر،
فاختاروا فلسفة التعاون مع الاحتلال البريطاني ومنهج التغريب في الفكر والسلوك،
وتقديم الربح والمصلحة الذاتية على ما عداهما من قيم، ثم السعي لربط الوطن
بالمصالح والاستراتيجيات المهيمنة عالميًا حسب المرحلة، أي منذ الإمبراطوريات
الاستعمارية القديمة إلى الرأسمالية الإمبريالية الجديدة المتوحشة، وبما في ذلك
الدولة الصهيونية، التي هي بالتاريخ والسياسة امتداد عضوي فج لحركة الاستعمار
قديمه وجديده، حيث تعد نموذجًا للاستعمار الاستيطاني العنصري – فيما يحرصون على
ذلك – فإنهم يعمدون إلى التمزيق الذي أشرت إليه في بداية السطور!
هكذا أفسر الحملة التي أضحت أقرب إلى متلازمة
مرضية «سندروم»، تطفح أعراضها على عقول المصابين بها، فلا يملكون مقاومة النزوع
إلى الكتابة الدورية بلا توقف هجومًا وتهجمًا «عمال على بطال» على جمال عبد الناصر
وثورة يوليو، وبالطبع على كل الجوانب الفكرية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية،
التي ارتبطت بناصر ويوليو!
وحتى لا نقع في الخطأ نفسه، فإننا لا نسعى ويجب
ألا نسعى بحال من الأحوال لكي تكون القيادة الوطنية الحالية، ممثلة في الرئيس عبد
الفتاح السيسي صورة كربونية من جمال عبد الناصر، ولا أن تكون الممارسة السياسية
تكرارًا لما كان، لأن في ذلك حنينًا مرضيًا للماضي، وفيه تجنٍ على الوطن الذي مرت
عليه متغيرات هائلة لا تفسح مجالاً لتكرار من أي نوع وأية درجة، ناهيك عن أن هذا
السعي - إذا وجد - فيه ظلم لمن يقودون العمل الوطني حاليًا، لأن لكل عقل إبداعاته
ولكل قائد بصمته ورؤيته!
إن الفرق كبير بين التعامل مع ثوابت الوجود
الوطني المصري، التي تفرضها حتميات الجغرافيا الطبيعية والسياسية، وتفصح عنها دروس
حركة التاريخ منذ أن قامت الدولة المركزية من حول النهر، وسعت لتنظيم العلاقة بين
النهر وبين البحر.. وبين الوادي وبين الصحراء، وبين الزعم بوجود حتميات سياسية لا
تعترف بمتغيرات داخلية وإقليمية ودولية، ولا تقر بأن ثمة مناهج وممارسات قد كانت
صحيحة في عصرها وأوانها، ثم أصابها البلى وفقدت صلاحيتها شأنها شأن ظواهر فكرية
وسياسية إنسانية عديدة، وإلا صار الوضعي النسبي مقدسًا ومطلقًا!
ثوابت الجغرافيا ودروس التاريخ هي الأولى
بالعناية، وعلى ضوئها نجد وحدة المفهوم لمقتضيات الأمن الوطني المصري منذ عبّر
عنها المصريون القدماء وصاغها في نظريات علماء الاستراتيجية وفلاسفة التاريخ..
وعلى سبيل المثال السريع فإن المتون المصرية القديمة تتحدث عن أن الملك – خاصة في
الأسر الحديثة – قد سعى ليؤمن «الأرض»، حيث مصر دومًا هي الأرض، منطلقًا إلى قرن
الأرض وإلى منابع المياه المعكوسة.. أي من القرن الإفريقي حيث بلاد بونت، أي مصادر
مواد التحنيط وثروات متعددة، ومضيق باب المندب المتحكم في أمن مصر، ومعه الساحل
والعمق فيما يعرف الآن بإريتريا وجنوب السودان والحبشة.. إلى منابع دجلة والفرات
وسفوح جبال طوروس، وهي مياه معكوسة لأنها تجري من الشمال إلى الجنوب عكس النموذج الفذ،
أي النيل الجاري من الجنوب للشمال!
وهنا نظمت الحملات وأقيمت نقاط الحراسة
والمراقبة والإنذار المبكر ومدت مصادر المياه العذبة وهلم جرا.. وقد بقي هذا
الثابت الجغرافي الاستراتيجي ومعه كل التفاصيل المنتجة لدروس التاريخ حقيقة قائمة
عبر العصور لوقتنا هذا!
فإذا حدث واهتم كل قادة مصر العظام بالنهر
وعلاقته بالبحر وبمحاور الأمن الوطني، يصبح الأمر فهمًا واعيًا للثوابت الوطنية،
وليس تكرارًا لممارسات سابقة! وهناك العديد من النماذج المتصلة بهذا المثال، وهو
ما يدركه تمامًا أصحاب نظرية وممارسة تقطيع أواصل الارتباط بين حلقات النضال
الوطني وهدم التواصل بين مراحل مشروع النهوض، ولن يتوقفوا عن التعبير عن متلازمتهم
المرضية إلى أن يضمنوا هيمنتهم الكاملة على صنع القرار واتخاذه في مصر، وهذه هي
حقيقة وهذا هو لب الصراع الدائر في مصر الآن.. صراع بين الانحياز والالتزام
بالثوابت الوطنية وبين هدمها والاغتراب بعيدًا عنها عقليًا ونفسيًا، ولا أظن أن
نهاية هذا الصراع قريبة.
نشرت في جريدة الأهرام
بتاريخ 28 سبتمبر 2016.
No comments:
Post a Comment