Thursday, 29 September 2016

طرف من حوار يساري




لا أخفي إعجابي بالغجر أولئك الذين ينتشرون في أرجاء المسكونة يتنسمون الانطلاق بلا حدود جغرافية ولا سياسية، ويتميزون بملابسهم وحليهم ورقصاتهم وعلاقاتهم الداخلية التي تعطي للمرأة مكانة مرموقة، ناهيك عن فنون قتالهم ومهاراتهم في كسب رزقهم بالحيلة وأشياء أخرى.. أقول ذلك كي لا يتسرب وهم بالتمييز العنصري قد اتهم به إذا قلت أن كثيرين من مثقفينا وسياسيينا يصدق فيهم المثل الذي كانت تضربه جدتي عندما تقرع سمع من يستهلك ولا ينتج، بل ويسخر من إنتاج المنتجين فتقول: "أنتم عاملين زي عواجيز الغجر أكل ونأورة" ومعلوم أن النأورة التي ربما تكون فصحاها "نقورة" هي السخرية اللفظية الحادة من الآخر، وهي في بعض اللهجات العامية "نأوزة"!!

ذلك أنه جمعتني مع أصدقاء قدامى جلسة كنا فيها كلنا من قبيلة اليسار بدرجاته.. أحمر قاني للذين لا يخفون انتسابهم للحركة الشيوعية المصرية، وأحمر فاتح قليلا لماركسيين غير منظمين ثم أفتح شويتين لأعضاء في حزب التجمع وصولا إلى البمبي الذي هو العبد لله ممن هم قوميون يعتنقون الجدل منهجا والعدل الاجتماعي غاية، وقد يخرجهم عتاة اليساريين من زمرة اليسار فيصنفونهم "برجوازية صغيرة"!

ومع الطعام الشهي والشراب البهي وضمن تشكيلة على ذلك النحو كان حتميا أن يدور الكلام حول المرحلة بكل ما ومن فيها.. وبدأ "جر الشكل" من زاوية أن هناك من يعبدون العبودية للعسكر، وبدأت الأسطوانة تدور حول ثورة يوليو وناصر وإجهاض الثورة الوطنية الديموقراطية التي كانت تختمر في جوف مصر قبل 1952، وأنه من الطبيعي أن تتجاذب مكونات البرجوازية الصغيرة من عسكر، ومثقفين غير ثوريين جذريين وشرائح من الطبقة الوسطى! وكنت أنا المقصود بالطبع.. إلا أن الداعي للجلسة والمتكفل بالفاتورة كل مرة تصدى بحسم شديد للأطروحة، وذهب إلى أن اليسار الحقيقي هو من يؤمن بدور جيش مصر ويميز بينه وبين جيوش أخرى في بلاد أخرى!

ولأننا كلنا نفهم في كل شيء اتجهت إلى ضرورة الاحتكام للمنهج.. وعندما تذكر كلمة المنهج ينصت الجميع، خاصة إذا كانوا من قبيلة اليسار وتحدثت عن قضية التناقضات والأولويات وحتمية التمييز بين التناقضات الرئيسية والأخرى الجزئية والثالثة الهامشية، ومن ثم وبناء على فهم التناقضات نستطيع أن نحدد الأولويات.. وبعدئذ يكون السؤال الحقيقي وليس المجازي: ما هو التناقض الرئيسي الذي تجب مواجهته كأولوية أولى، هل هو الصراع ضد قوى التخلف اليميني ذي الصبغة التي تزعم مرجعية دينية وتنحو نحو الإرهاب والقتل والتدمير، أم ضد المؤسسة العسكرية الوطنية أي جيش مصر الوطني؟، وهل يدخل ضمن التناقضات الرئيسية محاولات مصادرة حق مصر في مياه النيل، ومحاولات حصارها إقليميا لعزلها عن دوائر فعلها؟ وهل يدخل أيضا المخطط الذي تم تنفيذه بضراوة لتفتيت مصر وتفكيكها وضرب نواتها الصلبة أي تماسكها الاجتماعي؟ وهل يدخل الإفساد والفساد وتفشي النهب والسلب ومعهما شيوع القيم المضادة للتنمية والعمل، ضمن التناقضات الرئيسية أم لا؟!

ثم استمر ذكر التناقضات بدرجاتها الأخرى، ووصلنا للسؤال المتصل بمن وكيف التصدي لهذه التناقضات، وهل يتم الانتظار لحين تبلور قوى سياسية مدنية منظمة متماسكة قوية لديها برامج واضحة قابلة للتطبيق ولديها وجود جماهيري منتشر في ربوع الوطن ومؤسساته الإنتاجية في الحقول والمصانع والمصالح وغيرها، أم من الوارد مرحليا الاعتماد على القوة الوحيدة المنظمة المنضبطة واضحة الرؤية محددة المهام غير التابعة لأصابع خارجية ومستقلة التمويل وهي القوات المسلحة؟!

وعندئذ عدنا إلى التاريخ الذي هو مخزون الخبرة الوطنية وهو المتن الذي يمكن استخلاص الدروس منه، لنجد أن الآفة الكبرى القاتلة التي تضرب الوطن في كل مفصل تاريخي هي آفة الخلط وآفة غياب فهم طبيعة التناقضات ومن ثم غياب القدرة على ترتيب الأولويات.

نحن أمام مشهد تصدق فيه حكاية جدتي عن عواجيز الغجر، لأن هناك من يستهلك ولا ينتج ويؤثر أن يبقى مشاركا بالانتقاد والتهجم لدرجة التجني والبذاءة، ولا يعجبه العجب ولا الصيام في رجب، والأكثر عجبا أن معظم إن لم يكن كل الذين يتهجمون لديهم عمى بصر وطمس بصيرة، يحول بينهم وبين أن يبدأوا بأنفسهم.. بأن يعملوا وأن ينتجوا وأن يؤدوا دورهم في بناء هذا الوطن وأن يتركوا غيرهم يعمل، ويعطوا الفرصة لاستكمال ما بدأ تنفيذه من مشاريع كبرى ومن تحولات حقيقية باتجاه استعادة العزيمة الوطنية والإرادة الجمعية، واحترام قيم العمل ليصبح كما كان واجبا وحقا وشرفا!

أعرف محترفين للكتابة على الفيس بوك ولا تمر ساعة إلا ولهم إسهام ما، إما بتغيير صورهم الشخصية لاستعراض "بوزات" طلعتهم البهية، وإما بصب اللعنات على قيادة النظام الحالي وعلى كل من يخالفهم الرأي، ولدرجة استخدام ألفاظ ومصطلحات لا تليق بمن يدعي لنفسه أنه مفكر أو مثقف ويعرف العيب والحلال والحرام، ولأن الحقيقة لا تتجزأ فإن منهم هم أنفسهم من يستحل سرقة إنتاج غيره ونسبته لنفسه ليتقاضى عنه أجرا، فإذا تمت مواجهته بما حدث منه لا يعتذر وإنما يمضي في الطريق نفسه!!

خلاصة ما وددت قوله من محصلة هذا الحوار اليساري هو: قليل من المنهج يرحمكم الله.. والتاريخ.
                        
نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 29 سبتمبر 2016.

No comments:

Post a Comment