Wednesday, 8 February 2017

فقر الفكر.. وفكر الفقر




إنه في يوم 24 يناير 20177 تلقيت على بريدي الإلكتروني هذه الرسالة من الأخ الأستاذ سعيد فرج عازر، وقرأتها عدة مرات، لأتنهد بعمق ولأمسح "رغرغة" العين قبل أن تنهمر.. الرسالة طويلة تقع في حوالي ثلاثة آلاف كلمة، ولظروف المساحة فلن أستطيع نشرها كلها، رغم أن من حق كاتبها ومن حق القارئ أن يتكافأ الحوار بين الكاتب وبين من يقرأون.. والتكافؤ يبدأ من حق التفكير والتعبير ومساحة النشر، ولا ينتهي عند حد. وفي اعتقادي أن من واجب الكاتب والصحيفة معًا توفير مناخ الحوار ليتم تكوين وتنوير الرأي العام، بحيث لا يحتكر من شاءت ظروفهم أن يصيروا أصحاب أقلام ومساحات ومنابر للتعبير هذه المهمة التي يستحيل أن يقوم بها "المونولوج" وحده، وقبل أن أقدم الرسالة أستسمح صاحبها والقارئ أن أقوم ببعض الاختصارات، متمنيًا ألا أجور بذلك على مضمون الرسالة.

"...وصلت إلى إحساس بأن عقلي يرفض أن يفكر.. أن يحلل.. أن يتأمل! عقل أصبح أو أوشك أن يكون في خصام مع الكلمة، في خصام مع الحياة، خصام مع الحياة الحقيقية، وبالتالي خصام مع اللوجوس أو المنطق أو الله نفسه، فالخصام مع الكلمة هو خصام مع الله، ومن غيرك يعرف قيمة وسلطان الكلمة وكونها مختصرًا لحياة الناس قاطبة!

لقد عرفت أنت وجيلنا كله قوة الحرف وسلطان الكلمة وعنفوان الكلمة والمضمون.. نعم جيلنا هذا الذي عرف منذ نعومة أظافره كيف يتسلل صغيرًا إلى داخل سراديب الممنوع! وكيف يصنع في خلسة من الزمان كل المضامين السرمدية، وأن يكتشف المعاني الحقيقية والأبدية لما كان يحدث من حولنا.

جيل استطاع منذ الصغر بقوة حلم المرحلة التي عشناها أن يعبث بجيوب الساسة من العرافين والدجالين، وشق له طريقًا إلى السحرة وأصحاب التوابع والعرافين، دخل عليهم غرفهم الباردة والمظلمة بلا خوف ولا رهبة، واستولينا هناك على أحجبة مستقبلنا المزعوم كي لا تحكمه الصدفة ولا الخرافة والمفروض أو الموروث، بل تحكمه قوة الحلم العظيم في كل شيء.. ذلك الحلم الذي وُلد مع جيلنا ورُبط معه كالحبل السري الذي لم ينقطع حتى اليوم".

"... فماذا أفعل وأنا محاط بطوابير من الطرشان حتى تحولت إلى عمدة للأغلبية الصامتة عمدًا وغصبًا بعد أن افتقدت كل رغبة في الكلام وسط هذا الكم الهائل من الفساد في كل المفاهيم.. لم يعد الأمر الآن هو كيفية الخلاص من الفساد ذاته.. بل كيفية الخلاص من المفسدين أنفسهم بعد أن تلوثوا حتى النخاع، وخلقوا حولنا قاموسهم الخاص للمعايير والمفاهيم، وأصبحت هذه المفاهيم والمعايير الفاسدة دستورًا "مكتوبًا" في القلوب والعقول وتمارس بنوده في السر والعلن.. دستور جمهورية "فسادستان" الحرة المستقلة!".

"... نحن أمة ينمو أغلبية عناصرها من رجال ونساء وشباب وشيوخ مكبلًا بإحساس بالعجز المطلق.. كل ذلك بسبب تاريخ لم يكشف لنا أسرار أركانه أحد حتى الآن بشكل يبرر فساد حاضرنا إلى هذا الحد الذي يزكم الأنوف، وبسبب حاضر متهالك لا يصلح لشيء يعمه فساد في كل الأدوات والمفاهيم، وبسبب مستقبل يصر على ألا يكشف لنا عن ذاته أو سمة من سماته، مستقبل يمعن في التخفي والتنكر ويبقي علينا حيارى أمام تاريخ زائف وحاضر عاجز ومستقبل تملؤه الضبابية.. مستقبل مُصرّ على أن ينكر بنوته لنا ويجعلنا كل لحظة نشعر أننا قد ولدنا خارج التاريخ والجغرافيا معًا حتى صرنا جميعًا كالبضاعة قبل فتح الحوانيت مباعة!".

"... نعم نحن نعلم قدراتنا وقوة المخزون الحضاري المتواجد داخل كل مصري شاء أم أبى أن يعترف بذلك، لكن المشكلة تكمن في أنه بالرغم من قوة عناصر المنظومة المصرية إلا أن تلك العناصر تعمل في اتجاهات متناقضة ومتضاربة ومعاكسة لبعضها والآخر، لذلك تأتي دائمًا المحصلة صفرية!

نحن نتفنن بل نتفوق على الدنيا بأسرها باحتراف الحركة المضادة!

نحن نتفنن في الحركة المضادة بعضنا لبعض.. نحن محترفون في عملية الإنهاك المتبادل بعضنا لبعض.. كل بطريقته لإجهاد الآخر!

نحن نترجم ضعفنا وفشلنا أمام تحقيق المشروع الوطني الأكبر الضائع منذ سنوات، ونعكس هزيمتنا النكراء أمام ذلك المشروع بممارسة إعياء وإنهاك بعضنا للبعض!".

"... لقد قرر الجميع الدخول في حروب على المقاس لشعور جميعنا أننا في حاجة إلى نصر، والنصر يحتاج إلى معركة، والمعركة في حاجة إلى عدو! وكل ذلك يحتاج إلى ميدان يمارس فيه العراك.. فصار الشارع والبيت والمدرسة والجامعة والكنيسة والعمل بل وحتى المطعم والسوق؛ ميادين تكتظ أمامنا كل يوم بكل صنوف العنف وعدم الرحمة في التخاطب والتعامل.. الجميع في حالة عدوان دائم لا يهدأ ولا يكل، وأصبحنا جميعًا وقودًا يوميًا لنيران اجتماعية لا تهدأ!

هكذا صارت مصر وهكذا أصبح المصريون! أمة تستنزف قدراتها وقوتها الناعمة وإبدالها بكل صروف القسوة وعدم الغفران".

"... لقد تحللنا داخل منظومة تقتيل الاستقراء والتفكير والتحليل حتى صرنا في غابة من الغوغاء والدهماء الفكرية والاجتماعية، صرنا بين السندان والمطرقة، بين سندان الفقر والجهل ومطرقة الثراء والجهل، وهو ما كان له التأثير الأكبر في محنة هذا الشعب، فمن الأولى خلقنا قنبلة محلية الصنع.. صنعناها هنا في العشوائيات حول ما كنا نسميه وقتها "الحضر"، وخلقنا من الثانية قنبلة مستوردة سابقة الدفع بدينارات وريالات وبترول الخليج، لقد نجحت مصر وكان لها السبق الأعظم في صناعة النموذج الأول الذي تنبأ به يوسف إدريس في أحد مقالاته التي ما زلت أذكرها! نجحت مصر في إبرام زواج كاثوليكي بين فقر الفكر وفكر الفقر".

ثم يتساءل السيد سعيد فرج عازر:
"لماذا فتحنا مصر على مصراعيها لثقافة البترودولار كي تكتسح أركان هذا البلد كي تقضي على كل جميل من قيم القناعة والاكتفاء بالموجود والمقسوم والقضاء على ثقافة الشكر التي كنا قد تربينا عليها، لماذا كفر هذا الشعب بعظمة قيمة الاستغناء؟! لقد تربينا في بيوت بلا مراوح كهربائية والآن نلعن اليوم كله عند توقف أجهزة التكييف.. لماذا كرهنا البلاط والقيشاني وجرينا وراء السيراميك والرخام.. أين طلاء الشقق بفرشاة الجير بدلًا من الطلاء الخاص وورق الحائط.. كان أفضل الحمامات- وإن شطح المالك- يحتوي على متر مربع قيشاني خلف الحوض والآن ها هنا نحن وقد دخلنا السونا والجاكوزي. كانت نملية المطبخ قمة المراد من رب العباد، أما الآن فالمطبخ ألوان بل وشجون! أين الكليم بدلًا من السجاد.. أين الجبن والخيار والبطيخ في الشرفات ساعة العصاري وتكعيبة العنب واللبلاب وزرع الشرفات.. أين القلة الفخار وماء الورد تحت أغطيتها.. أين بائع اللبن والزبادي والملانة والبلح الرطب والترمس.. أين كل هذا.. بل أين نحن.. أين الصابون النابلسي وعصاة الغلية.. أين كل هذا؟! أليس بذلك عشنا، أليس بذلك كبرنا وسعدنا وصنعنا ما لم يصنعه غيرنا بالمنطقة كلها؟

وبرغم الظلمة الحالكة التي نعيشها ويشعر بها جميعنا، يحضرنا الآن مقولة طالما أحببتها، تقول إن أشد ساعات الليل إظلامًا هي الساعة التي تسبق الفجر".
                               

نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 8 فبراير 2017.

No comments:

Post a Comment