تقترب الذكرى السنوية الأولى لرحيل الأستاذ
هيكل، وكم كان لا يحب، بل ويسخر أحيانًا من عبادة الفرد وتحويل البشر إلى أساطير،
لأن ذلك يستدعي على الفور ظهور كهنة ودراويش يعيشون أو يتعيشون معنويًا وماديًا
على مزيد من "الأسطرة"– إذا جاز التعبير– ولو استدعى الأمر اختلاق
واختراع ما لم يكن موجودًا، دون ورع من جرح أو تعديل لحكاياتهم، وبغير خشية من أن
يكشف أحد موقف الرجل من بعض هؤلاء، لأنه كان قادرًا، وبفراسة عجيبة، على أن يفرز
المتعالم والجاهل والنمام والأرزقي وأيضًا المثقف والموهوب وغيرهم، غير أنه كان
يستطيع الاحتفاظ بكل هؤلاء من حوله وتوظيفهم بالطريقة المناسبة.
مع ذكرى رحيله طفت على بعض كتبه ومقالاته، وآخر
ما صدر في هذا الصدد هو الجزء الثالث من مجلدات مقاله "بصراحة" عن مركز
الأهرام للترجمة والنشر.. وهو جهد يحمد للأهرام وللمركز وللقائمين عليه.
في 25 مايو 19622 كتب الأستاذ هيكل مقاله
الأسبوعي بعنوان "الأمة.. دورها في صنع البطل ودور البطل في حياتها.. حديث
ذات ليلة على أمواج الأدرياتيكي".
وفي المقال يروي الأستاذ هيكل أحداث ما جرى
أثناء عودة الرئيس عبد الناصر من يوغوسلافيا، وحجم المخاطر التي أحاطت به، ثم
قراره بالتوجه لموسكو، ويحكي أيضًا عن دور الدكتور محمود فوزي في المشهد.. ومن
المقال أقتبس ما يلي، وأظنه شديد الأهمية في مشهدنا السياسي التاريخي الحالي، كتب
هيكل:
"إن
القدرة على الصدق هي أصعب الأمور على الذين يصلون إلى القمة.. إن الخيالات
والأوهام تدور في رؤوسهم، والمظاهر المسرحية للسلطة تقيم أستارًا مزركشة مذهبة من
حولهم تحيطهم بأجواء أسطورية وخرافية.. لكن جمال عبد الناصر استطاع أن يملك القدرة
على الصدق".
"...
من هذا الصدق استطاع جمال عبد الناصر– بينما أمته ترفعه إلى ما لم ترفع إليه غيره
من زعمائها– أن يتحدث عن جماعية القيادة لتكون عاصمًا من جموح الفرد وتأكيدا
للديمقراطية على أعلى المستويات وضمانًا للاستمرار الدائم المتجدد".
وبعد ذلك يكتب هيكل سطورًا أراها في غاية
الأهمية، لأنها تتصل بما يقترب من فلسفة التاريخ:
"إن
أفدح المآسي في تواريخ الأمم وقعت من نسيان الحقيقة في دور البطل في تاريخ أمته..
إن السراب الخادع عن عظمة الفرد أو خلوده قاد كثيرًا من الأمم إلى الهلاك المؤكد،
لأن دور البطل في تاريخها خرج عن حدوده الحقيقية، وشرد وراء نسيان النفس، وتاه
بحثًا عن المجد الشخصي.. إن البطل ضرورة للأمة في بعض المراحل من تاريخها، لكن البطل
ليس فوق الأمة وإلا كانت المأساة فادحة.. إن الأمم هي التي تصنع الأبطال من طول
معاناتها للألم أو للخطر، وتكون مهمة البطل هي أن يسير بأمته إلى الأمل وإلى
الأمان، أي أن البطل هو جسر تعبر عليه أمته من الألم إلى الأمل ومن الخطر إلى
الأمان.. وهذه هي المهمة الحقيقية للبطل في تاريخ أمته، وهذه هي قيمته، وإذا نسي
البطل نفسه فإنه يتحول من جسر عبور بين مرحلة ومرحلة إلى عقبة أمام تقدم الأمة
ويصبح محتمًا عليها في هذه الحالة أن تحطمه وأن تزيحه من طريقها لتواصل تقدمها،
لأنه في هذه الحالة يتحول من "بطل" إلى "صنم"، وكم في تواريخ
الأمم تحول "الأبطال" بنسيان النفس إلى أصنام.. إن البطل أداة تصنعها
الأمة في مرحلة معينة من تاريخها، خصوصا مرحلة الألم والخطر.. وهذه المرحلة تحتاج
إلى إنسان غير عادي يقدر أن يبت ويقدر أن يحسم، لكن البت والحسم يجب أن يكونا
استلهامًا من ضمير الأمة وطاقتها الكامنة وإلا انعزل البطل عن القوة التي صنعته..
إن ظروف الأمم أوقات الأزمات تنتظر أكثر مما يقدر عليه الرجل العادي أو مؤسسات
السلطة التقليدية، وهنا ضرورة دور البطل حتى في أكثر الأمم تمكسًا بالديمقراطية
شكلًا.. أو جوهرًا.. إن أوقات الأزمات لا تحتاج إلى الحساب الدقيق فقط ولكنها
تحتاج إلى شيء أكثر من مجرد الحساب المادي الدقيق.. وهنا دور البطل".
هذا الكلام سيدي القارئ كُتب عام 19622، في أوج
القمة التي وصل إليها جمال عبد الناصر كزعيم مصري وعربي وعالمي، وأدعوك لقراءته
أكثر من مرة لأنه كما أسلفت أقرب إلى فلسفة التاريخ وما يتصل فيها بدور البطل أو
الفرد التاريخي، وهو أمر قد يتصل بواقع كثير من الأوطان في مرحلتنا الراهنة.
وبعد هذا التأصيل الفلسفي التاريخي يضرب الأستاذ
هيكل بدور ونستون تشرشل في حياة الأمة البريطانية في سنة 1940، حيث كان
"الحساب المادي الدقيق أمام أي رجل عادي يرأس الوزارة البريطانية يومها كان
يفرض عليه الاستسلام أمام هتلر.. فقد اجتاحت قوات العاصفة الألمانية تحت قيادة
الماريشال فون بوك بولندا في أيام، ثم تقدمت المدرعات الألمانية ودارت في حركة
كماشة سريعة فوق خط ماجينو الفرنسي واحتلت في ساعات هولندا وبلجيكا ولوكسمبورج، ثم
اندفعت الجيوش الألمانية بقيادة عباقرة الحرب الألمان من أمثال رومل وهالدر وفرضت
على فرنسا أن تسقط على ركبتها راكعة تطلب السلام".. ويستطرد الأستاذ هيكل في
التركيز على جبروت ألمانيا وهتلر واكتساح الألمان لأوروبا وتوقيع الاتحاد السوفيتي
معاهدة عدم اعتداء مع هتلر، بحيث بدت بريطانيا مجبرة- بحكم كل الظروف- على
الاستسلام، لكن تشرشل "باتصاله بضمير أمته وطاقتها استطاع أن يشعر أن بها
قدرة غير عادية على مواجهة ظروف غير عادية، وأطلق يومها صيحته الشهيرة: سوف نحارب
في البر والبحر والجو.. سوف نحارب على الشواطئ وفي الحقول.. سوف نحارب في الشوارع
والبيوت.. وكانت هذه الصيحة هي اللحظة الحاسمة التي بدأ فيها الجزر يتحول إلى
مد".
وأتوقف هنا لأوجه التحية لذكرى الأستاذ التي تحل
الجمعة 17 فبراير، وقد تكون لي عودة إلى خزانة حكمته.
نشرت في جريدة الأهرام
بتاريخ 9 فبراير 2017.
No comments:
Post a Comment