هناك ما يسمى خدش الحياء العام، وعند
مستوى معين من الإسفاف يكون لهذا الخدش عقوبة قانونية فيها الحبس والسجن
والغرامة.. وهناك أيضًا ما يسميه أهل الفضل من الصالحين الحياء من الله سبحانه
وتعالى، وبعض تفسيراته أن يجد المرء نفسه إزاء حلال مباح لا جناح على من فعله أو
اقترب منه، ولكنه يتعفف عن فعله أو الاقتراب منه حياء من الله سبحانه وتعالى، وقيل
في الأثر إن الحياء شعبة من شعب الإيمان.. ومن الحياء العام إلى الحياء من الله
مسافات كلها تصب فيما يحفظ للإنسان إنسانيته وكرامته، ومع ذلك فإن أحدًا لم يلتفت
إلى ما يمكن أن أسميه الحياء الوطني، إذ قد يكون الموقف أو السلوك أو الكلمة لا
يدخل أي منها في إطار التجريم القانوني، ولا في إطار المخالفة المهنية، التي
تقررها نقابة ما لتنظيم وضبط مسلك المنتمين إليها، لكنه يدخل فيما أسميه خدش
الحياء الوطني، الذي لا شك أنه أشد وطأة من خدش حياء الناس بكلمة بذيئة أو بدن عار
أو ملبس مثير أو حركة نابية وهلم جرا.. وفي هذا الإطار أناقش الموقف من الذين أرى
أنهم فقدوا تمامًا الحياء، سواء كان عامًا أو من الله أو تجاه الوطن.
وطن يعرف عامته وخاصته.. أي جماهيره
ونخبته.. أن موقف الإدارة الأمريكية منه ولعقود طويلة يتسم بالسلبية حدًا أدنى
وبالعدوان في غالب الأحوال، لأننا منذ عام 1919 على الأقل بقيت خبرتنا مع
الأمريكان خبرة سلبية، حيث حاولت الحركة الوطنية المصرية بعد انتهاء الحرب
العالمية الأولى أن تستمد العون من الرئيس ولسن صاحب المبادئ الأربعة عشر، ولكنه
رفض مجرد لقاء الوفد المصري بقيادة سعد زغلول، بل وأكثر من ذلك أيدت الولايات
المتحدة العسف البريطاني الذي تصاعد إلى أقصى درجة، ثم حدث بلا حرج عما عانيناه من
حصار اقتصادي ومن مساندة للعدو الصهيوني إبان عدوانه علينا واحتلاله أرضنا، وصولًا
إلى اللحظة الحالية، حيث يقف الرئيس الأمريكي مع الاحتلال الاستيطاني العنصري
الصهيوني بطريقة غير مسبوقة.. ومع ذلك وفي اليوم نفسه الذي أعلن فيه موافقة بلاده
على ضم الجولان للدولة الصهيونية، إذ بمصريين يستقبلان في الكونجرس للتحريض على
مصر وقيادتها! وكأنها رسالة ضمنية للترويع مضمونها هو إذا لم تلتزموا الصمت على
السياسة الأمريكية تجاه القدس والجولان، فإن ملفات سوف تفتح وسوف يكون العقاب!
اثنان من المحسوبين على عالم الفنانين
المصريين ذهبا بإرادتيهما إلى جهة أجنبية يستعديانها على الوطن شعبًا وقيادة،
وعندما تتخذ النقابة التي ينتسبان إليها موقفًا حاسمًا يخرج علينا من يصرخ ويقول
إن هذا أمر مهول وسابقة خطيرة، وأن النقابات ليس من حقها أن تفعل ذلك إلى آخره،
وفي هذا السياق أتذكر وأدعو غيري للتذكر يوم أن كان العدوان الثلاثي على مصر، وكان
بعض الصحفيين وبعض الأكاديميين يقيمون في بريطانيا وانتهزوها فرصة للانقضاض على
النظام الوطني الذي يقوده الزعيم جمال عبد الناصر، وانخرطوا في الإذاعة التي حملت
اسم "صوت مصر الحرة"، وانهالوا هجومًا وتحريضًا على مزيد من ضرب مصر
وعلى حتمية التخلص من النظام الوطني فيها! وكان السؤال هو هل يجوز أن يبقى هؤلاء
متمتعين بجنسيتهم المصرية، وبعضوية الكيانات النقابية التي ينتمون إليها؟! وها هو
الحال يكاد يتكرر ليطرح السؤال نفسه: هل يجوز لمن تلتقي إرادته مع إرادة من يخططون
ويمارسون العدوان بدرجات عديدة على مصر وعلى شعوب الأمة العربية في فلسطين وسوريا
والعراق وغيرها، ويذهب بنفسه للتعاون مع ذلك الطرف الأجنبي بل لمزيد من استعدائه
ومزيد من العقوبات على مصر، أن يبقى حاملًا للجنسية المصرية وأن يبقى متمتعًا بكل
حقوق المواطنة ومنها حقوقه النقابية؟! مجرد سؤال يفرض نفسه حتى لو لم تكن هناك
عقوبة جنائية أو جزائية تقع على من يفعل هذا الفعل، لأن هناك ما أسميه وبحق الحياء
الوطني العام.
الحياء الوطني هو من يجعل المسيحي يصر
على عدم تناول الأكل في نهار رمضان علنًا أو أمام مواطنيه المسلمين.. وهو من يجعل
المسلم الحق يحمي ببدنه وروحه كنيسة من الاعتداء.. لأن هذا الحياء هو الترجمة السلوكية
لما نسميه الالتزام الوطني الذي يرقى عند كثيرين لمرتبة التقديس، الذي لا يقل درجة
عن الالتزام العقائدي الديني بل أحيانًا يفوقه تقديسًا!
وما أعتقد أنه يسري على أولئك الذين
خدشوا وجرحوا وكسروا وأساءوا للحياء الوطني، أي الالتزام الوطني، بذهابهم إلى تلك
المؤسسة الأمريكية واستعدائها على الوطن أراه ساريًا على الذين يستمرئون التمويل
الخارجي في غير مجال، ويستندون على أن الدولة لا ترفض التمويل والقروض وما شابه
ذلك، وما يسري على الحكومة يسري آليًا على الأفراد.. وهذا فيما أعتقد افتراء وقلة
حياء! وحقًا صدق القول: "إذا لم تستحي فافعل ما شئت"!
نشرت في
جريدة الأهرام بتاريخ 4 أبريل 2019.
No comments:
Post a Comment