Wednesday, 17 April 2019

..العود أحمد!!





عندما تقلصت فرصة الارتحال الذي أدمنته لفترة طويلة، كنت أسافر على الخريطة في المسارات نفسها التي سبق وارتحلت عبرها، وبعد الأطلس الضخم الفخم الذي اقتنيته ضمن الموسوعة الأمريكية، جاء الهاتف المحمول لألمس إشارة "الخرائط" فتنفتح الأماكن كلها، وكانت في البداية مماثلة للأطلس، وظلت تتطور إلى أن أصبحت كاملة الأبعاد ودقيقة للغاية، فأمضي في الشوارع بين البنايات، وفي الطرق السريعة والأنهار والبحيرات، كما لو كنت على الطبيعة فعلًا!

وكان لتقلص الفرصة أسبابه التي تصادف كل أب، عندما تمسك المفاضلة بين متعته وبين التزاماته تجاه العيال بخناقه، ويظل يحاول الفلفصة فلا يكون إلا الاستسلام لتلك الالتزامات.

ويبدو أن بذرة الارتحال في تكوين بعض الخلق- وأنا منهم- موجودة وبقوة وتبقى كامنة إلى أن تتهيأ ظروف الإنبات والرعرعة، فتنطلق متغلبة على كل العوائق، وأظن أن بذرتي الارتحالية بذرت منذ كنا نرتحل وراء قوافل أهلنا باتجاه دسوق، لحضور المولد الدسوقي، والشهداء لحضور مولد سيدي شبل، وطنطا لحضور المولد الأحمدي، لا نبالي من طول السير بمداسات "ما يلبس في القدمين"، لا تحتمل المسافات الطويلة نسبيًا فنخلعها لنتأبطها، ثم كان الارتحال في موكب سعي أبي المدرس للعمل فانتقلنا من ريف بسيون إلى قويسنا المنوفية، ومنها لدسوق الفؤادية ومنها لطنطا الغربية، ولما آن وقت دخول الجامعة اخترت "الأبونيه"– اشتراك السكة الحديد– من طنطا للقاهرة يوميًا والعكس.. أو من السيدة زينب وبعدها شبرا إلى الجيزة وبعدها العباسية!.. كان ذلك في مطلع الستينيات، التي شهدت بدورها انعطافة ترحالية عجيبة، إذ كنت أمضي الشهور في السياحة كدرويش بين المدن والقرى، وكانت أطول مسيرة على القدمين بصحبة درويش "سنيور"، هو الشيخ عبد الرؤوف العوضي، أخي الأكبر في "الطريق"، بمحاذاة فرع دمياط، وفي المنطقة التي تتبع مراكز أجا والسنبلاوين وسمنود، وعايشت أهل الطريق من مختلف المشارب، أحمدية.. وبيومية.. ورفاعية.. وخلوتية.. وبرهامية.. وشاذلية ونقشبندية.. وحملت مشنات الطعام المتفاوتة من الفول النابت والدقة والجبن القديم والكرات والفجل واللفت المخلل، إلى هبر اللحم وأناجر الفتة.. وتعلمت ألا أستنكف رص البراطيش "الأحذية والبلغ القديمة"، وألا أمتعض من تنظيف المراحيض، وألا يفور دمي من رذالة مبطون لا يريد أن يفسح المطرح لغيره، ولا من شطحة مبالغ في التعبير عنها من مجذوب تنتابه حالة الوجد، فيتحول من أنسي إلى مارد فائق القوة يتكاثر الزبد حول شفتيه وينطق لسانه برموز يسمونها في لغتهم "السرينة"، أي النطق بالسريانية وتبدو الحركة الرأسية التي تفارق فيها الأقدام مواطئها إلى أعلى أو يتحول تمايل جذع الجسد يمنة ويسرة إلى حركة دائرية، وكأنها تدار بمحرك قوته عشرات الأحصنة!.. ثم كانت الخدمة العسكرية، وبعدها السجن، ومن بعدهما الترحيلة الطويلة إلى أوروبا، ثم الخليج أو ما أسميته "الترحيلة النفطية.

وفي مرحلة الكمون كنت ارتحل على خريطة جوجل من باريس مثلًا إلى فينيا إلى سالزبورج إلى فينيسيا ثم نزولًا مع الأدرياتيك إلى قرب نهاية الساحل، ثم الانعطاف إلى جنوة وبيزا، ثم إقليم التيرول إلى أنسبروك، وسانت أنطوني.. أو من فينيا إلى شتوتجارت إلى ستراسبورج إلى إقليم شامبين، نزولًا إلى آنسي، حيث بحر الجليد.. أو من كيلونا في كولومبيا البريطانية بكندا إلى فانكوفر، ثم نزولًا إلى ولايات واشنطن ومونتانا وأيداهو ويوتا ونيفادا وأريزونا وكاليفورنيا إلى شمال المكسيك، ثم العودة إلى كاليفورنيا، ثم صعودًا إلى أوريجون، واختراق جبال الروكي إلى كندا ثانية!!.. وبقي النقص الأساسي في الارتحال الخرائطي هو غياب التعامل المباشر، الذي تتجلى فيه تدفقات المشاعر مع البشر والحجر والزرع والضرع، غير أن ما كان ومازال يخفف من وطأة هذا الغياب هو أن المشاعر التي كانت تتجلى في الارتحال الفعلي لم تكف عن التأجج مع الخريطة، ووجدت القشعريرة نفسها التي غمرتني حتى البكاء العميق اللذيذ المريح، عندما دخلت بين لحاء الشجرة العملاقة "جنرال شيرمان" وبين خشبها في محمية سيكويا بجبال سييرا نيفادا تأتيني وكأنني لم أغادر الصلاة بين اللحاء والخشب!

انتميت إلى فرع فلاحي صميم من أسرة تعددت سمات فروعها بين متعلمين وفقهاء.. وبين حرفيين وفلاحين.. ومازلت أذكر السؤال الخالد الذي كان جدي لأبي رحمة الله عليهما، وكان من بعده أبي وأعمامي يسألونه لمن هو ضيف عابر سبيل مد له الطعام الموجود، حيث الجودة بالموجود، أو لمن هو موظف "أميري"، كالصراف أو مهندس الزراعة أو مفتش الري، أو حتى طبيب الوحدة الريفية: أنت منين؟! أي من أين؟!.. وبمجرد أن يجيب يأتيه الرد: تعرف فلان من العيلة "العائلة" الفلانية؟! تعبيرًا عن أن المضيف الذي هو من الجمالين– عائلتنا– ارتحل ودهس "أي جاس" الديار وله معارف في كل اتجاه، ويبدو أن اهتمام هذا الفرع باقتناء أجود الماشية من إبل "جمال"، أو جاموس وبقر وحمير وخيل، كان من وراء معرفتهم الدقيقة بأفضل البلدات التي تشتهر دوابها بأفضل الصفات.

ومنذ أسبوعين جاءت الانفراجة، وتلقيت من ابنتي البكرية، التي ولدت بعد دخولي السجن بأسبوع، وصارت الآن موظفة كبيرة، بطاقات السفر وحجز الفنادق في ألمانيا وإيطاليا وسويسرا.. وكانت الرحلة من القاهرة لفرانكفورت ثم ميلان ثم فلورنسا ثم زيورخ بالطائرة والقطار.. وجزء منها بصحبة آخر العنقود طالبة الدكتوراه في العمارة في بولي تكنيك ميلانو، وربما يكون للحديث صلة إذا رحمتنا متغيرات السياسة.

نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 17 أبريل 2019.

No comments:

Post a Comment