كنت أظن أن كلمة "لغلغة"،
التي اشتق اللسان العامي منها كلمة "لغليغة"، ليست فصحى، إذ كنا ومازلنا
نصف الكلام الكثير الصاخب المتكرر أنه "لغليغة" كلام.. وعرفت أنها
فصيحة، تعني إذا كان الأمر كلامًا أنه عجمة ولخلخة، أما إذا كان الأمر طعامًا فهو
خلطه بالسمن جيدًا، وعليه فإن لغليغة الكلام التي لا تهدأ كلما اتصل الأمر بإنجاز
لمشروع كبير.. أو بحديث لمسؤول رفيع.. أو بتشريع.. أو بدستور، تبقى دومًا في إطار
رد الفعل الذي يتسقط صاحبه أفعال غيره، وإذا حاججته سمعت عجمة ولخلخة.. أي كلامًا
غير منطقي ولا مفهوم ولا مستوٍ!
لقد كنت في سفر استطالت مدته
لأسبوعين، ومن بعد كنت أراقب شأننا المصري وأفكر في جوانبه، ولا أنكر أن الطمأنينة
التي تسري ببطء وبثبات في وجدان البعض، وأنا منهم، عندما نراقب الإنجازات التي كان
منها في الأيام الفائتة الانتهاء من محور روض الفرج العملاق، وكان من ضمنها تعميق
التواصل الإيجابي مع الدول الإفريقية، وزيارات مسؤولين أوروبيين للقاهرة، ناهيك عن
زيارة الرئيس للولايات المتحدة، هي طمأنينة تستكمل بالتوجه نحو جانب آخر في شأننا
المصري يشعر به المرء ويتفاقم في عقله ونفسه وفكره، كلما كنا في الخارج، هو الجانب
الاجتماعي الجمعي الذي يشمل طريقة حياة الناس ومسلكياتهم، وعلاقة البشر بالشارع
والمرافق والمباني والعمل والاستمتاع!، أي مجمل ما يتصل بقضية بناء الإنسان، التي
سبق وأن أعلن أنها محور العمل الأساسي في الفترة الرئاسية الثانية، وقد بدأ تنفيذ
بعض الخطوات، خاصة ما يتصل بصحة الأجيال الطالعة من الأطفال والمراهقين والشباب،
وأيضًا ما يتصل بتطوير العملية التعليمية، وفي هذا تفاصيل إيجابية، ولكن تبقى
القضية التي أعتقد أنها محورية، وهي السلوك الجمعي المصري في كل مناحي الحياة،
ابتداءً من حوض المطبخ وبلاعة الحمام، وليس انتهاءً بالحدائق العامة والجدران
وأحواش ومسارات السكة الحديد، ناهيك عن إشارات المرور وعبور الشوارع والميادين،
وحركة السيارات في مداخل الأنفاق ومطالع الكباري، وشوارع أرقى الأحياء الجديدة في
التجمع من أوله إلى خامسه!
هي قضية لا تقترب منها الآن ولا في السابق
لغليغة كلام محترفي اصطياد كل الأفعال الإيجابية، التي يتم إنجازها، وكل كلمة يصرح
بها رئيس الجمهورية، ثم ينهالون هجومًا وتهجمًا واصطناعًا للفهم والقدرة على
التحليل والتوقعات!
إن من صميم عملية بناء الإنسان العمل
الجاد على تعديل سلوك البشر؛ حيث أصبحنا نلاحظ أنه لا درجة التعليم، ولا مستوى
الثراء المادي، ولا طبيعة العمل، ولا كل ما يمكن أن يكون سببًا يمنع المواطن من
السلوك السلبي يفعل فعله.. وخذ أمثلة سريعة منها أن المقيمين في معازل
"كمبوندات" القاهرة الجديدة وما شابهها من تجمعات سكانية حديثة، لا
يسكنها إلا القادرون على اقتناء مساكن تتجاوز قيمتها عدة ملايين، لا يتردد معظمهم
عن السير عكس الاتجاه وبإصرار عنيد، وتجد سيارة آخر موديل من الفئة العالية مثلها
مثل الدراجة النارية "موتوسيكل" الشاب الطيار "الدليفري"،
الذي يريد أن يختصر المسافة، ولو في حدود مائة أو مائتي متر للوصول إلى فتحة
"يوتيرن" الاتجاه السليم، ومثلها مثل التوك توك في أدنى حارات الأحياء
الفقيرة! ومنها اندفاع السيارات عند مداخل الأنفاق ومطالع الكباري إلى أقصى اليمين
متجاوزة الخطوط المتصلة، وقطع المطب الصناعي لقطع الطريق على من ينتظمون في الصفوف
السليمة لمدخل النفق ومطلع الكوبري، ثم يضع الواحد منهم مقدمة "بوز"
سيارته أمام سيارة من التزم الصح، ليتعطل السير ولا تعدم نظرة تحدٍ منه قد تصل إلى
تشويحة باليد، ولا مانع من السباب!
وحدث ولا حرج عن تحول مسارات السكك
الحديدية إلى مقالب زبالة بامتداد مئات الكيلو مترات، وتدمير الأسفلت بمياه ومواد
غسيل السيارات وتلويث أسوار مسارات القطارات والمدارس والمباني العامة والمنشآت في
العديد من الأماكن بكتابات ورسومات قبيحة، وأحيانًا بذيئة، وبعضها يحتاج
لأكاديميات طب وتحليل نفسي!.. وهناك مسلكيات أصبحت من مظاهر الإدمان كإلقاء أعقاب
السجائر المشتعلة من نوافذ السيارات والمنازل، وكذلك علب السجائر الفارغة وأكياس
المأكولات وقشر الموز والبرتقال، وما على غرار ذلك، وسبق أن جربت أن أنتفض وأفتح
باب السيارة في إشارة رابعة العدوية "آنذاك"، لأعاتب من ألقى بعلبة
مارلبورو فارغة ومعها كيس يحتوي بقايا أكل في الشارع النظيف، فكان الرد عنيفًا
قاسيًا بذيئًا "وأنت مال دين... هو شارع اللي..."! وكدت أندفع للاشتباك
اليدوي، إلا أن الإشارة فتحت واستكمل هو الردح بحركات أصابعه!
نعم.. نحن أصبحنا – بل منذ عشرات
السنين – في أمس الحاجة إلى التصدي الحاسم لتعديل سلوكيات المجتمع.. ولنا أن نفتح
حوارًا، وأن نقبل من كل أطراف اللغليغة أن يساهموا- ولو بالكلام- في حملات تأسيس
وعي مصري جديد، من أجل مصر خالية من القبح.
نشرت في
جريدة الأهرام بتاريخ 18 أبريل 2019.
No comments:
Post a Comment