Tuesday, 18 October 2016

مصطفى عبد القادر.. المواطن الفذ




للأحداث الجارية خبراؤها، بين متخصصين وبين مهتمين، كما أن لها جهابذتها، والفرق بين المتخصصين وبين المهتمين وبينهما وبين الجهابذة هو أن المتخصص يكون في الأغلب ممن درسوا الفرع العلمي الذي ينضوي الحدث في إطاره وتعمقوا في أحد فروع ذلك الفرع العلمي، كأن يكون المتخصص دارسًا للعلوم السياسية ومتخصصًا في العلاقات الدولية وأعد أطروحته في السياسة الخارجية لدولة ما أو إقليم بعينه، وربما في العلاقة بين منظمات أو دول وهلم جرا، ثم إن المهتم قد يكون ممن بذلوا جهدهم وأفرغوا وسعهم في التتبع المنتظم والعميق لظاهرة من الظواهر السياسية أو الاقتصادية أو المعلوماتية، ودأب على حضور مؤتمرات وندوات وإجراء مقابلات وحوارات وعقد مناظرات حول نقطة اهتمامه المباشرة، وأحيانا يكون المهتم أكثر دراية من المتخصص بالدراسة ليتأكد الفرق بين الدراسة النظرية على الورق وبين الممارسة الفعلية على أرض الواقع، أما الجهبذ فهو غالبية من لا يفلتون حدثًا إلا وتصدوا للفتوى فيه، غير مبالين بأي قواعد مهنية تلزم المتصدي- خاصة إذا كان من أهل الصحافة والإعلام بوجه عام- بأن يستوفي المعلومات ويمحصها ويتحرى دقة مصادرها، وغالبا ما يؤدي الجهابذة إلى تعقيد المواقف وإفساد المسارات وتشويه الحقائق، بما تنعكس آثاره المدمرة على علاقات الدول ومصائر الأوطان.

وهناك أمور لا يتوافر لها خبراء ومهتمون وجهابذة، لأنها غير مغرية بالتناول، إما لتوقع انصراف القارئ عن قراءتها لأنها بعيدة عن اهتمامه، وإما لأنه لا شهرة ولا مكسب من ورائها، ومن تلك الأمور ما أنا بصدد الكتابة فيه اليوم، وهو محاولة قراءة بعض جوانب حياة مجتمعنا من خلال تناول ظاهرة ما أو سيرة شخصية بذاتها!

فاليوم يمر عام على رحيل صديق وأخ كبير جمعتني به صداقة فيها تناقض مثير، إذ ينتمي- رحمة الله عليه- إلى جهاز الشرطة، وقضى معظم سني عمله ضابطًا في المباحث العامة، التي صارت مباحث أمن الدولة، ثم أضحت الأمن الوطني! ولأنني منذ 1968 من المشاغبين سياسيًا على المستوى الداخلي المصري وعلى الصعيد العربي، بل وربما العالمي بحكم الواقعة التي جرت في فبراير 1984، وفيها نزلت دولة عظمى- بل الدولة الأعظم- عن عظمتها "وعملت عقلها بعقل" واحد من العامة الذي هو العبد لله، وكان أن أرسلت سفارتها في أبو ظبي رسالة رسمية بالإنجليزية والعربية إلى رئيس تحرير جريدة "الخليج" التي كنت أعمل بها آنذاك وأكتب عامودًا يوميًا؛ تحتج فيها على ما أكتبه، مقدمة أرشيفًا بتواريخ تجاوزاتي من وجهة نظرهم، واعتبروني ذا توجه إرهابي يضر بمصالح شعب ودولة الإمارات!

أقول لأنني كنت مشاغبًا، فقد كنت ضمن اهتمامات المباحث العامة، ثم أمن الدولة، ولا أعرف هل الأمن الوطني الآن مشغول بأمثالي أم لا؟! وعليه فقد كنت- ولفترة طويلة- ضمن اهتمامات وعمل صديقي الأخ العزيز اللواء مصطفى عبد القادر، الذي وصل لأن يكون مديرًا لأمن الدولة، ثم تولى موقع وزير التنمية المحلية، وقبلها محافظا للمنيا! والذي كان دومًا يؤكد لي أمام الجميع: "لولا أننا كنا نقبض عليك ونحبسك لما أصبحت زعيمًا ومفكرًا، وكان زمانك حرامي بدرجة وزير أو أمين تنظيم"، ثم يذكر تفاصيل ما عرضوه على العبد لله من أن يصبح نائبًا لرئيس حزب مصر بدرجة نائب رئيس وزراء.

اقتربنا بعد أن ترك العمل في الدولة، وصرنا أصدقاء، نلتقي ربما يوميًا لأكتشف أن ضابط أمن الدولة المحترف جدًا يملك روح شاعر وموسيقي وحكاء من طراز بديع! ولأكتشف أن العاملين في الدولة الذين وصلوا لأرفع موقع، وهو الوزير، يتوزعون بين عدة أنواع، وداخل كل نوع عدة درجات، مثلما هي الكائنات الحية في عالمنا الدنيوي! وأن من تلك الأنواع نوعًا شريفًا محترمًا متفانيًا ومخلصًا يعرف الصح والغلط مثلما يعرف الحلال والحرام، ويعلي من شأن عمله وولائه للوطن على حساب راحته وأسرته، ويبقى دومًا- حتى بعد ترك الخدمة- محترمًا لتقاليد عمله وقواعد القانون، فلا يفشي سرًا، ولا يبتز أحدًا، ويسيطر بقسوة بالغة على شهوة الحديث وشبق الشهرة وألق ادعاء الأهمية بأثر رجعي.. وهكذا كان الشاعر والعازف والحكاء مصطفى عبد القادر!

دخل كلية الشرطة "البوليس" رغم أنفه، لأنه كان يود أن يدرس الطب، وخضع لمشيئة أبيه الأستاذ محمد عبد القادر، مراقب عام البرامج السياسية في الإذاعة المصرية خلال الخمسينيات، بدخول البوليس، ولما كان عمره أقل من المطلوب، وطول قامته أقصر بقليل، جاء الاستثناء من مكتب جمال عبد الناصر شخصيًا، وكان الذي وقّع على التوصية بالقبول هو السيد سامي شرف. وفي الكلية كان صف ضابطه الأعلى طالبًا يسبقه بعام أو عامين، وظل صديقه إلى أن جلست معهما عشرات المرات، وهو رماح الدكروري، اللواء بالمخابرات ورئاسة الجمهورية فيما بعد، الذي كان ينبه الطالب مصطفى بتعليماته، حتى وهما معنا، ضاحكين على العشاء في أحد النوادي الاجتماعية!

في كلية الشرطة تخرجت أول دفعة درست ليسانس الحقوق مع بكالوريوس العلوم الشرطية عام 1959، وهي دفعة مصطفى عبد القادر.. ثم توزيع إلى محافظة الجيزة.. وطابور ضباط ملازمين جدد يقف أمام سيادة مدير الأمن، فتصدر من أحدهم حركة أو ضحكة تودي به إلى جنوب المحافظة، ويتجه مصطفى إلى قسم الجيزة.. وهناك يصطدم بأول صدمة.. الباشا المأمور وعلاقاته الغرامية.. وضابط المباحث الذي يترك مكتبه لتجلس فيه "فتوة" أو بالأصح بالعامية "فتواية" الجيزة المعلمة "سكسكة".. جسد نسائي هيولي ذو صدر مهيب.. وحضرة الملازم- حامل ليسانس الحقوق- يشاهد حضرة معاون المباحث وسكسكة تجذبه لتدفن رأسه في فتحة صدرها ليشم رائحة الكولونيا الثلاث خمسات المعتبرة.. وحضرة المعاون يستغيث: "هاموت يا سكسك.. اتخنقت"!

وكما اكتشف حضرة الملازم الحقوقي سطوة المعلمة التي كانت مساهمتها فعالة ولا غنى عنها في ضبط الحالة الأمنية، وفي تقديم قضايا، وإلى آخره، اكتشف سطوة صف الضباط من الصول وانت نازل.. واكتشف السطوة العليا للعلاقات الشخصية، خاصة النسائية، مع بعض السادة القيادات في المديرية والقسم!

ولأنه يملك حاسة الشعر وهواية العزف على بعض الآلات الموسيقية وروح الحكاء الروائي كان اقترابه شديدا من قهوة عبد الله في الجيزة، التي كانت مقر الإقامة الليلية يوميًا لمجموعة من أشهر أدباء مصر.. محمود السعدني.. وعبد القادر القط.. وأنور المعداوي.. وزكريا الحجاوي وغيرهم!

ومن هناك إلى المباحث العامة، حيث كان المدير هو الشخصية الفذة اللواء حسن طلعت.. وحيث الخدمة مع كبار من عينة حسن أبو باشا.. وفي المباحث العامة ومن بعدها أمن الدولة تخصص في الشئون العربية، وكان يساعده شخصيات أخرى، لا تقل فرادة، منهم: شوكت حسني ومحمد عبد القادر! ومن اختصاص الشئون العربية متابعة كل الطلاب العرب الدارسين في مصر ومتابعة مكاتب التنظيمات الطلابية والسياسية العربية.. وهذا الملف بحد ذاته يحتاج مؤلفًا خاصًا!

وفي خدمته يشاء قدره أن يكون في المجموعة الأمنية التي تسافر مع الرئيس جمال عبد الناصر.. تصل قبله لتأمين وصوله، وتقيم معه لتأمين وجوده!

وفي المغرب، وبعد منتصف الليل بقليل، حيث درجة الحرارة قرب الصفر المئوي أو دونه بقليل، يأوي الرئيس إلى غرفة نومه بمقر إقامته، بالعاصمة المغربية، فيشعر بحركة في الشرفة "البلكونة"، ويفتح بابها، ليجد "بتاع المباحث" كما كان يناديه، واقفًا في عز البرد.. ويسأله: ماذا تفعل هنا؟ ويرد الشاب: أؤدي واجبي في حراسة السيد رئيس الجمهورية.. ويرد الرئيس: وأنا رئيس الجمهورية آمرك بأن تدخل من هذا البرد.. ليرد الشاب: لا يا فندم لن أدخل وأترك خدمتي.. ويشتعل الحوار لينتهي بأن يخلع الرئيس الروب الذي يرتديه ليضعه بتاع المباحث على كتفيه!

ثم يضعه القدر في مأساة "أيلول الأسود"، أو أحداث سبتمبر في الأردن ليعيش تفاصيل الصدام بين الملك حسين وجيشه وبين ياسر عرفات والمنظمات الفلسطينية.. وتفاصيل شديدة الدقة والإثارة حول الاقتتال والموت، إلا أن الشاعر والموسيقي والحكاء يتوقف عند صاحبة البنسيون المتحكمة في المياه شديدة الندرة، وفي الطعام الأشد ندرة، ويحكي عن لهجتها الأرمنية، ونوادرها مع المقيمين عندها، وفيهم دبلوماسيون ورجال أمن ومخابرات، مثل صاحبنا!

عشرات بل مئات من الوقائع والحكايات وآلاف الأسرار كانت حبيسة صدر وذهن المواطن المصري الفذ الذي تتكرر نسخته مع اختلاف المحتوى مئات ألوف المرات.. تشاهدهم وهم في أوج سلطتهم فتظن أن الدنيا دانت لهم أبد الآبدين، ثم يتركون الكراسي ويبقون كما هم متواضعين راضين قانعين، لأنهم أدركوا مبكرًا أنه يوم لك ويوم عليك، ولو دامت لغيرك ما وصلت إليك.

كم وددت أن أستمر في الكتابة، غير أن المساحة غلابة، لذا فهو فصل من فصول دفاتر الذكريات التي بدأت أسطرها، وليت الأيام تتيح فرصة استكمالها.
                       

نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 18 أكتوبر 2016.

Thursday, 13 October 2016

Heikal and “The Ugly American”, 1961




That was in February, 1961… meaning almost 55 years and 9 months ago… I thought it would be objective if I excerpted lengthy texts of what was written then… although I realize that history does not repeat itself, and that time is like rivers; you cannot use the same water twice because it runs continuously, the resemblance between the two eras is clear… I also believe that the learned lesson from this historical context is that the Americans do not learn or make use of their accumulated experiences… because until this very moment they are still asking us the same daft question; “why do you hate us?”... it seems they are bathing in a waterless river.

I read, maybe for the third time, texts of articles written by Mr. Muhammed Hassanien Heikal – may he rest in peace. I keep revising what he wrote and which was then related to the events, maybe due to my academic study of history and my profession as a journalist. I found an article titled “The Ugly American and the actual American policy as we saw it this week”. The article was written by Mr. Heikal on February 24th, 1961 and published in the second part of the series issued by Al Ahram centre for publication.

Heikal starts his article saying: “as if I am reading once again the story of “The Ugly American” that was the most popular publication in the last three years… the story was written by two American diplomats; William Lederer and Eugene Burdick, in which they depicted some features of the American policy in Asia and Africa… they expressed through the scenes and situations of their story that strange mix of “silliness” and “ribaldry” in this policy… these are not my words; it is what the two authors of the story said in narrating the experiences they lived serving in the American diplomacy”.

Heikal continues: “this week in Cairo – February 1961 – I felt, like I said before, as if I am rereading the story of The Ugly American… this time, it was not written on paper or portrayed in a play scene or over movie screen… actually, it was a living picture in reality that combines that strange mix in the American policy, like it was once illustrated in the novel; a mix of “silliness” and “ribaldry”… I do not like these descriptions implied by the two words, as they may indicate a sense of offence, but I have to stick to the credibility of translating from “The Ugly American”.

Afterwards, Heikal goes on in his article talking about a question directed by an American official to one of the Egyptian diplomats working in the embassy of the United Arab Republic – Egypt – in Washington at that time. The question was about Egypt voting for 15 times in the United Nations agreeing to the Soviet Union stances. Mr. Heikal mentioned some of the situations when that voting of same opinions took place, including: a motion for decolonization, voting over the membership of the People’s Republic of China in the United Nations, a motion submitted by Ghana over the Congo crisis, voting over a complaint submitted by Cuba against the USA, a motion to release Lumumba and disarm Mobutu’s soldiers, voting over a motion to grant Algeria its independence, a motion to convict Belgium of its attack over Congo…etc.

Then, Mr. Heikal goes into narrating an experience he had when he found himself part of a discussion with a famous American journalist whom he met in Casablanca. The American journalist stirred many issues starting with Egypt being ungrateful to America’s favor of unveiling Israel’s attempt to obtain an atomic bomb. Mr. Heikal answered: “do you want to know the truth or you will get mad?”. The American answered: “I’m all ears”.

Heikal: “there was nothing secret to us regarding Israel nuclear activities… we were following its attempts… and I want you to know that Israel to us is a matter of life or death, and we are keeping our eyes open on it all the time… moreover, I can even tell you that we have photos and outlines in Cairo for that new atomic reactor Israel is trying to build in Naqab… as to the attack over you, there is a simple explanation for that; that is we believe, and this is actually the truth, that Israel capacity depends mainly on your generosity… without this generosity, Israel cannot survive”.

Heikal continues disclosing for the American journalist the secret lying behind America revealing the Israeli atomic activity, saying: “American secret services have arrested an American atomic energy scientist of Jewish origins while he was handing secret documents of the American atomic researches to one of the Israeli embassy men. This is the reason behind all this fuss and public declaration…”. Mr. Heikal continues: “surprisingly, two days ago – February, 1961 – I received a message sent to me from Washington from that American journalist containing only one sentence: “I’m not mad”.

Mr. Heikal ends his article – which he wrote 55 years ago – writing: “as if I was reading the novel of “The Ugly American” while I am listening to and keeping an eye on some conducts of the American embassy men in Cairo. One of them is a minister plenipotentiary named Francis Allan. He does not like this country; Egypt, or what is going on in it, and he does not keep his opinions for himself, actually, he goes saying them everywhere because he, according to his words, is an experienced expert of Egypt and Egyptians since he was working as an archeologist in Harvard University’ excavation trips near the pyramid in the pre-July 23rd revolution era in Egypt.

In his opinion, Egypt witnessed no revolution because the Egyptian peasant, according to his own estimation, does not repel, and that actually, he succumbs to his fate, accepts poverty and humiliation and does not seek to change his destiny, again, because he – the American diplomat – believes the Egyptian is dull and incapable of taking actions… and that all projects of industrialization in Egypt according to the American diplomat’s opinion are merely fancy dreams… even the High Dam is nothing but a modern-type pyramid built by the ruler to be a memorial to him… and that the Egyptian people love America and adore Britain but only their rulers are the ones opposing America and Britain’s policy due to feeling inferior to them… nothing more or less.

“No one would have blamed the American minister plenipotentiary Francis Allan if he wrote this opinion in his reports for the American government. In any case, what he writes or read by his government is incapable of changing history. However, he is definitely blamed for forgetting that he is in Cairo right now, thinking he is still lost among the excavations in the royal epoch, and not paying attention to the fact that time has changed”, Heikal wrote.

Mr. Heikal then writes about another American: “another one of them, the one who was caught distributing inciting leaflets early in the morning at the cornice. He found nothing to defend himself but to say that air blew and so the leaflets flew out of his car window to the street… also, the military attaché in the American embassy in Cairo who went talking in one of the parties this week – February, 1961 – about the protests that surrounded the embassy and kept shouting against the American policies that were involved in Patrice Lumumba’s death. The military attaché said that some of his men were equipped with Tommy Guns inside the embassy, and that orders for them to fire at the protesters were ready in case they stormed into the embassy. I do not know what would have happened if a single shot was fired from the American embassy. Most probably, the military attaché himself does not know what would have happened… these are live depiction of “The Ugly American” novel and true description of its characters… and then they become angry when we tell them this”.

Excerption from Mr. Heikal’s article ends… Now, we can only say, the more things change, the more they stay the same.

Translated into English by: Dalia Elnaggar


This article was published in Al Ahram newspaper on October 13, 2016.

To see the original article, go to:


#alahram #ahmed_elgammal #Egypt #usa #Heikal #american_policies #the_ugly_american

هيكل و«الأمريكى القبيح» 1961




كان ذلك فى فبراير 1961.. أى منذ خمسة وخمسين عاما وتسعة أشهر تقريبا، وقد وجدت بعض الوجاهة الموضوعية فى أن أقتبس فقرات مطولة مما كتب آنذاك.. لأننى رغم إدراكى أن التاريخ لا يعيد نفسه، وأن الزمن مثل الأنهار لا تستحم فى مائها نفسه مرتين، لأنه يجرى أو يتحرك وإن كان آسنا، إلا أن التشابه بين المرحلتين واضح، وأعتقد أن الدرس المستفاد من هذا السياق التاريخى هو أن الأمريكان لا يتعلمون ولا يستفيدون من خبراتهم المتراكمة، لأنهم حتى هذه اللحظة يبادروننا بسؤال أظنه سؤالا أبله: لماذا تكرهوننا!.. ويبدو أنهم يستحمون فى نهر بلا ماء!!

المهم أننى كنت أقرأ ربما للمرة الثالثة نصوص مقالات كتبها الأستاذ محمد حسنين هيكل رحمة الله عليه، إذ أعاود الاطلاع على ما كتبه مرتبطا بالأحداث، ربما بحكم الالتقاء بين دراستى الجامعية للتاريخ وبين عملى الصحفي، ووجدت مقالا بعنوان «الأمريكى القبيح» والسياسة الأمريكية الفعلية كما رأيناها هذا الأسبوع، كتبه الأستاذ يوم 24 فبراير 1961، وهو منشور فى الجزء الثانى من سلسلة الأجزاء التى ينشرها مشكورا مركز الأهرام للنشر، ويبدأ الأستاذ مقاله بعبارة تقول: «كأنى من جديد أستعيد قراءة قصة «الأمريكى القبيح» التى كانت أروج ما أخرجته المطابع خلال السنوات الأخيرة الثلاث.. القصة كتبها اثنان من رجال الدبلوماسية الأمريكية هما «ويليام ليدرز» و»يوجين بيرويك» وصورا فيها بعض الملامح الناطقة للسياسة الأمريكية فى دول آسيا وإفريقيا، وأبرزا خلال المشاهد والمواقف هذا المزيج الغريب فيها من «السخافة» و»السفالة» وليس ذلك كلامى الضمير هنا عائد على هيكل ــ وإنما هو كلام صاحبى القصة فى روايتهما لخلاصة التجارب التى عاشاها فى خدمة الدبلوماسية الأمريكية»، ثم يستكمل هيكل: «.. وفى القاهرة هذا الأسبوع ــ فبراير 1961 ــ أحسست كما قلت وكأنى من جديد أستعيد قراءة قصة الأمريكى القبيح.. لم تكن حكاية على ورق ولا مشهدا على مسرح أو شاشة إنما كانت صورة حية على الطبيعة وملامح منها ترسم شكل الواقع وكلها تحوى هذا المزيج الغريب فى السياسة الأمريكية، كما تبدو من خلال الأمريكى القبيح.. مزيج من «السخافة» و»السفالة»!، ولست أحب هذين الوصفين فلقد تبدو فيهما نبرة تهجم ولكنها أمانة الترجمة عن «الأمريكى القبيح».

بعدها يسترسل الأستاذ فى مقاله، متحدثا عن سؤال وجهه مسئول أمريكى لأحد رجال سفارة الجمهورية العربية المتحدة ــ مصر ــ فى واشنطن عن تصويت مصر خمس عشرة مرة فى الأمم المتحدة تصويتا يتفق مع اتجاه الاتحاد السوفيتي.. ويذكر الأستاذ هيكل عينة من المسائل التى حدث فيها ذلك التصويت ومنها: مشروع يهدف لتصفية الاستعمار، والاقتراع على عضوية الصين الشعبية فى الأمم المتحدة، ومشروع قدمته غانا حول أزمة الكونغو، والاقتراع على شكوى من كوبا ضد أمريكا ومشروع بالإفراج عن لومومبا ونزع سلاح جنود موبوتو، واقتراع على مشروع لمنح الجزائر استقلالها، ومشروع لإدانة بلجيكا بالعدوان على الكونغو.. إلى آخره. ثم ينتقل الأستاذ هيكل لتجربة خاضها هو شخصيا، عندما وجد نفسه طرفا فى مناقشة مع صحفى أمريكى شهير التقى به فى الدار البيضاء، حيث أثار الأمريكى عدة قضايا بدأها بنكران مصر لجميل أمريكا فى كشف محاولة إسرائيل الحصول على قنبلة ذرية، ويرد الأستاذ بما نصه: «هل تريد أن تعرف الحقيقة ولا تغضب»؟ ويرد الأمريكي: «إنى أسمعك»!

هيكل: «لم يكن فى نشاط إسرائيل الذرى بالنسبة لنا سر.. كنا نتابع محاولاتها وأريدك أن تعرف أن إسرائيل بالنسبة لنا مشكلة حياة أو موت ولا نستطيع أن نتغافل عنها لحظة أو نغمض العيون يوما عن الرقابة عليها، ولعلى لا أتجاوز حدى إذا قلت لك إنه حتى ذلك المفاعل الذرى الجديد الذى تحاول إسرائيل بناءه فى النقب كانت له فى القاهرة صور ورسوم.. أما عن الهجوم عليكم فتفسيره بسيط، هو اعتقادنا والحقيقة أساسه فى أن مقدرة إسرائيل إنما ترتهن بعطائكم ومن غير هذا العطاء لا تقدر إسرائيل أن تدفع ثمن رغيف الخبز الذى تأكله».. ويستطرد الأستاذ كاشفا للصحفى الأمريكى السر الكامن وراء كشف أمريكا للنشاط الذرى الإسرائيلي: «إن رجال البوليس السرى الأمريكى ألقوا القبض على عالم ذرة أمريكى من أصل يهودى وهو يسلم وثائق خاصة بالأبحاث الذرية الأمريكية إلى أحد رجال السفارة الإسرائيلية، وهذا هو السبب الذى أدى للضجة والإعلان...»، «ومن عجب ـ والكلام مازال لهيكل ــ أننى منذ يومين ــ فبراير 1961ــ تلقيت رسالة من هذا الصحفى الأمريكى بعث بها إلىّ من واشنطن ولم تكن تحوى غير عبارة واحدة «لست غاضبا»!

ثم يختم الأستاذ هيكل مقاله الذى كتبه قبل خمسة وخمسين عاما فيكتب: «وكأنى كنت أقرأ فى قصة «الأمريكى القبيح» وأنا أسمع وأتابع بعض التصرفات الصادرة عن رجال السفارة الأمريكية فى القاهرة أحدهم برتبة وزير مفوض اسمه فرانسيس آلن لا يعجبه هذا البلد ولا يعجبه ما يجرى فيه وهو لا يكتم آراءه وإنما يدور يوزعها فى كل مكان لأنه كما يقول خبير قديم بمصر والمصريين منذ كان يعمل أثريا فى حفائر جامعة هارفارد قرب الهرم فى عهد ما قبل الثورة فى مصر وفى رأيه أنه ليست هناك ثورة لأن الفلاح المصرى فى تقديره لا يثور وإنما هو أسير حكم القدر عليه يرتضى الفقر ويرتضى الذل ولا يسعى لتبديل حاله، لأنه بليد غير قادر على الحركة وكل مشروعات التصنيع فى تصوره مجرد أحلام توسعية وحتى السد العالى ليس إلا هرما من نوع حديث يريد الحاكم أن يبنيه ليبقى تذكارا له.. والشعب المصرى يحب أمريكا ويعشق بريطانيا، ولكن حكامه ــ وحدهم ــ يعارضون سياسة أمريكا وبريطانيا مدفوعين بعقدة النقص لا أكثر ولا أقل.. ولم يكن أحد ليلوم الوزير المفوض الأمريكى فرانسيس آلن لو أنه يكتب هذا الرأى فى تقاريره لحكومته، فليس الذى يكتبه ولا الذى تقرأه حكومته بقادر على تغيير التاريخ، ولكن موضع اللوم أن ينسى الوزير الأمريكى نفسه فى القاهرة ويتصور أنه مازال بعد تائها فى الحفائر ضائعا فى العهد الملكى ناسيا مرور السنين..»، ثم يكتب الأستاذ عن أمريكى آخر: «وأحدهم أيضا »يجموند ناجورسكي« ذلك الذى ضبطوه وهو يوزع المنشورات على الكورنيش فى الصباح، ثم لا يجد ما يدافع به عن نفسه إلا التعلل بالهواء الذى هب، فتناثرت المنشورات من نافذة سيارته وطارت إلى الشارع.. ثم الملحق العسكرى فى السفارة الأمريكية فى القاهرة هذا الذى جلس فى إحدى الحفلات هذا الأسبوع ــ فبراير 1961 ــ يتحدث عن المظاهرة التى أحاطت بالسفارة الأمريكية فى القاهرة وراحت تهتف ضد السياسة الأمريكية التى خضبت يدها بدماء باتريس لومومبا، ثم يقول الملحق العسكرى الأمريكى إن بعض رجاله استعدوا داخل السفارة بمدافع التومى فى أيديهم، وأن الأوامر بإطلاق النار على المتظاهرين كان يمكن أن تصدر إليهم إذا ما اقتحمت المظاهرة الغاضبة أسوار السفارة.. ولست أعرف ماذا كان يمكن أن يحدث لو انطلقت من السفارة الأمريكية طلقة رصاص واحدة، وأغلب الظن أن الملحق العسكرى لا يعرف ماذا يمكن أن يحدث.. صور حية من قصة الأمريكى القبيح وملامح صادقة من شخصياتها.. ثم تغضبهم كلمة الحق»، انتهى الاقتباس من مقال الأستاذ .. فما أشبه الليلة بالبارحة.
                         

نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 13 أكتوبر 2016.

Wednesday, 12 October 2016

مئوية ميلاد الشيخ عوف




صمد للعصا الجريد "من جريد النخيل" ولتقشير عيدان البوص، وكنس الأرضية الطينية لدار وكتاب - مكتب تحفيظ القرآن - سيدنا، فأفلت مما لم يفلت منه معظم أقرانه ومنهم أخواه الأكبر منه والأصغر، إذ لم ينتظم في الذهاب للغيط ساحبًا البهائم في الصباح المبكر وعائدًا بها عند الغروب، وإن لم يعفه حفظ القرآن الكريم والانتظام في المعهد الأزهري من المساعدة في الفلاحة، فعرف كيف يمسك بالمحراث ويخطط الأرض، وعرف كيف وأين تبذر البذور ومواعيد الري، وأجاد ركوب الخيل، وأتقن كيفية فرز ما سيشترى من أنعام من سوق المواشي!

أتحدث عن أبي، الذي مرت مئوية ميلاده يوم 8 أغسطس، ولم يكن لي أن أتذكرها إلا بعد أن نشر أخي الأصغر عصام صورة للوالد بمناسبة مئوية ميلاده في عام 1916، وهو مثل ملايين الآباء من الفلاحين وغير الفلاحين، غير أن إلمامي بكثير من ظروف الميلاد والنشأة والمسار قد تكون سببًا كافيًا لكتابة كاتب عن أبيه!، وإشغال القارئ بما قد لا يفيده!

كان الحفاء هو السائد، ولذا كانت ضخامة القدم وسمك جلده وتشقق الكعوب سمة سائدة عند الجميع، نساء ورجالاً، وكانت النساء تتغلبن على ذلك بالشمع الإسكندراني والحجر الخفاف، الذي كان اسمه الشائع في منطقتنا وسط الدلتا آنذاك "الكحكيحة" - من حك الجلد - وكان مصدرها هو قمائن حرق الطوب، حيث تصل الحرارة المتلظية في الفحم الحجري المشتعل في قلب وجوانب القمينة لدرجة تصهر بعض قوالب الطوب النيئ المصنوع عادة من خلطة الطمي والتبن والروث والماء، ثم يصب الخليط الطيني الطري في قوالب خشبية مقاسها الشائع آنذاك هو حوالي 22 سنتيمترا طولاً واثني عشر عرضًا وسبعة ارتفاعًا، وكانت أشهر مصانع الطوب الأحمر - أي المحروق - تقع على شاطئ فرع رشيد وخاصة في قرية الفرستق، وبعض المصانع تختم كل طوبة بخاتم غائر يحمل اسم أصحاب المصنع، ومن أشهرهم على أيامنا "موسى ومكاوي عيسى"!، وقد لحقت الألف طوبة وثمنها "وصال" - أي مع النقل - ثلاثة جنيهات إلا ربع!

وكانت الأحذية التي تلبس لمن يملكون ثمنها تبدأ "بالحدوانة"، وهي مداس أقرب للشبشب الذي في مقدمته دائرة لدخول إبهام القدم.. ثم "البلغة"، وهي أنواع أشهرها ما كان يصنع في "فاقوس"، تليها الإسكندراني، وبعدها ما كان يصنعه الجزمائية المحليون في كل قرية.. وفي القمة يأتي "المركوب" ومنه "المركوب النجمي"، الذي اشتراه جدي الحاج محمد لابنه الذي سيتجه بعد أيام للمعهد الإبراهيمي - نسبة لسيدي إبراهيم الدسوقي - الأزهري في دسوق، التي تقع شمال قريتنا بحوالي اثني عشرة كيلو مترا!.. وذهب عبد الرحمن وكان اسم شهرته "عوف"، وأصبح بعد حفظ القرآن والقبول بالمعهد "الشيخ عوف"، وبعد دخوله بسنة تقريبًا، كان عليه أن ينتسب لمذهب فقهي يتلقى دروسه في باحة المسجد الإبراهيمي فاختار مذهب الإمام مالك رضي الله عنه.. وبالصدفة خدمه هذا الاختيار فيما بعد إذ كان أحد عوامل تسهيل قبوله خطيبًا أو مشروع عريس لمن كان والدها عمًا لأبيه، وكان كبير العائلة "الجمالين"، لأنه كان فقيهًا وتاجرًا، وعندما جلس عبدالرحمن ينتظر استيقاظه من قيلولته ليتلقى منه دروسًا في الفقه، إذا بالصغير يفاجأ بسؤال مباشر بعدما صلى العم الكبير العصر وسلم التسليمة الثانية:

من أنت؟ فأجابه، ثم: في أية سنة دراسية فأجابه: ثانية ابتدائي في معهد دسوق.. وكان السؤال الثالث: "ما مذهبك فأجاب من فوره "مالكيا"، وجاءت انفراجة التجهم.. طيب.. الله يفتح عليك.. أنا أيضًا مالكي!

في دسوق التي كانت تعز المواصلات إليها فيقطع الناس الكيلو مترات مشيًا حفاة، أو على ظهور الدواب سكن الشيخ الصغير في حجرة مع أقرانه، وأول ما قلدهم فيه هو دق عدة مسامير في الحائط الملاصق للكنبة البلدي التي سينام عليها.. مسماران لفردتي المركوب النجمي.. ومسمار للكاكولة ومسمار للعمامة، التي علمه كيف يلفها أحد القدامى بأن يضع الطربوش المغربي الأحمر ذي الزر الأزرق على ركبته المثنية ثم يفرد الشال الأبيض ذي الشراشيب الدقيقة ويلفها على الطربوش دائريًا فوق ركبته ثم يفرد الشراشيب بأطراف أصابعه المبلولة بلعاب خفيف!

وكانت معظم المعاملات عينية.. يعني صحون الصاج المغطى بالمينا الملونة ودوارق الزجاج الشفاف والملاعق المعدنية طويلة اليد وأكواب وبرادات الشاي الصاج المغطاة أيضًا بالمينا تشترى مقابل أرز أو ذرة أو ردة!.. ولذلك كانت النقود شحيحة وكان الريال والبريزة والشلن والنصف فرنك والقرش صاغ الأحمر المشرشر أو المخروم والتعريفة ونصف التعريفة أي مليمين ونصف، ثم المليم الأحمر.. وكلها ملك.. وكتابة والملك إما حسين كامل.. أو فؤاد أو فاروق!

وكانت "المرأة الحديدية" المتحكمة في اقتصاد الدار كله هي الحاجة حليمة، التي طالما كتبت عنها، وكان الشيخ الصغير ينبؤها بموعد سفره لدسوق ومن بعدها طنطا، حيث أهم المعاهد الأزهرية في المحروسة كلها "المعهد الأحمدي"، الذي حصل منه على الثانوية الأزهرية.. فلما ينبؤها تعد السلالي "السلة" المصنوعة من شقائق نبات البوص وفيه "الزوادة"، ثم تخرج المنديل المعقود على الفضية، وتبدأ في فرزها إلى أن تصل للبريزة، أي عشرة قروش وتنفحه إياها، فيظهر الرضا والرجاء والزعل على وجهه، فلا تعيره انتباهًا، ويحمل "السلالي" ويمضي أسفًا فما أن يبتعد قليلاً في السكة الضيقة التي تحدها البركة "المستنقع" من جانب ومقابر أبو الفتح من جانب آخر حتى يسمع صوتها تنادي عليه بعزم قوتها: "تعال"!.. فيعود لتفك عقدة المنديل وتفرز الفضة ثانية وتمنحه شلنا إضافيا فيقبل يدها القمحية المخضبة بالوشم الجميل! ويتجه لدسوق وهو ونصيبه إذا كان موعد مرور "الشركة"، أي الأتوبيس الذي كان يمر مرة أو مرتين حسب الظروف وأحيانًا لا يمر بالأيام، إذا كان وحل الشتاء قد غطى الطريق الترابية الممتدة من طنطا إلى دسوق!

فإذا لم يمر يأخذها مشيًا إلى قرية محلة دياي بلد الشيخ دراز ليستقل مركبًا "سفينة" شراعية متجهة إلى دسوق مرورًا بقرى الصافية وكفر مجر ومحلة أبو علي ودمنكة ثم دسوق، وحيث تظهر على البر الغربي مدينة رئيسية هي شبراخيت وبعدها مجموعة قرى أبرزها قرية كبيرة هي "مَرْقَص" - ميم مفتوحة وراء ساكنة وقاف مفتوحة - حيث ضريح سيدي أبو المجد والد سيدي إبراهيم الدسوقي!

وعند عودته في الإجازة الكبيرة من دسوق يكون مولانا الصغير قد ادخر من البريزة والشلن ما يكفي ليحمل عند عودته كمية مما اشتهرت به دسوق: الفسيخ والسردين.. والحلاوة الشعر - وهي نوع من الحلوى شديدة الحلاوة، هش الهيئة أقرب إلى غزل البنات، وتشتهر بصناعته أسرة الصردي، وأيضًا الحلاوة الطحينية التي كانت تباع في علب من الصفيح اللامع وكل علبة حسب وزنها، وأحيانًا عيدان قصب السكر وخاصة من سلالة "خد الجميل"، الذي كان عوده طويلا ضخما وقشرته الخارجية "مقلمة" بلونين الأحمر القاني والأبيض الكالح!.. ولذلك سمي "خد الجميل"!

ونجح الشيخ عوف في المرحلة الابتدائية كلها، لينتقل إلى طنطا حيث معقل العلم والثورة في المعهد الأحمدي الذي كان هو ومعهد الزقازيق وحدهما يضمان المرحلة الثانوية الأزهرية.. في الدلتا والوجه البحري.. وكان معهد الإسكندرية بعيدا إلى حد كبير!

وفي طنطا وصل الشيخ عوف للسنة الرابعة الثانوية فقرر أبوه الحاج محمد أن يزوجه من تلك الفتاة التي سألها أبوها زمان عن مذهبه، وكانت وحيدة على ستة أشقاء ذكور عدا عن أخين غير شقيقين كانا أسبق في التعليم، أحدهما كان رئيس المحكمة الشرعية بالإسكندرية، والثاني استقر به المقام في أسيوط ليؤسس فرعا جماليا كبيرا هناك، وله قصة تستحق أن تسجل لأن فيها طرفا من سيرة ثورة 1919 ومن سيرة بهي الدين باشا بركات وأخيه فتح الله باشا بركات!.. وتزوج الشيخ من أم أولاده.. أمي، وكان عمرها ثلاثة عشر ربيعا عام 1940 وعاشا زوجين حتى وفاته عام 1988 وبقيت مرحلة القاهرة، حيث كلية الشريعة والحصول على الشهادة العالية، ثم العالمية والتخصص في التدريس والتلمذة على أفذاذ عظام.. الشيخ محمود شلتوت والشيخ أبو العيون والشيخ اللباد والد الفنان الصديق الكبير محيي الدين اللباد رحمة الله على الجميع!!

ولأن المساحة ضاغطة، ولن تحوز القصة مساحة مماثلة لغيرها من القصص فإنني أتوقف متضرعًا لله: رحمة الله عليك يا أبي.
                                

نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 12 أكتوبر 2016.

Thursday, 6 October 2016

NDP abscesses in the Egyptian body




It is difficult a writer, who is supposed to respect what he writes, denies a stance he once adopted and defended before. I say this because of the rash that started spreading recently in the intellectual, cultural and press domain. I here mean the rubbish or opportunists that surfaced from the National Democratic Party (NDP) during very dark eras in the history of this country.

I have already written some articles after January 25th revolution distinguishing between what I called the state intellectual and the regime’s one. I affirmed that nations are not built by denying the efforts of its brilliant minds and that not everyone who belonged to an entity or party formed by the regime from above and later this party came to an end, is a traitor or opportunist, because there are times when this intellectual, scientist, researcher or executive has nothing else to do but to engage in the official organizational channels so that he can serve his country and avoid the obstacles put in his way.

I gave examples for this starting from Hassan el-Attar and Refa’a el-Tahtawi who collaborated with Muhammed Ali Pasha regime and then came other generations that did the same thing until we reached July 23rd, 1952 revolution and the political entities and parties that followed like at-Tahrir organization, National Union, Socialist Union and Young Cadres’ organization… then Egypt party during Sadat’s era and finally the National Democratic Party during Mubarak’s time.

Although the majority were of those untalented politically, culturally and morally ignorant, and that those who made it to the top were usually of those whom we can call “bindweeds”; invasive weeds twining the trees’ trunks and climbing up until they hide the tree and sometimes feed over these trees, there were also some efficient scientifically, culturally and morally talented people who found no other way but the official one to be of use to their country. I called upon those sincere sophisticated scientists not to retreat into their shells and to start looking for a way to continue benefiting their country, otherwise they would be regarded as opportunists. Some of them responded and started working actively again. However, we are witnessing now a phenomenon the least to describe is that it is disgusting as there are some ugly figures of the NDP that started to appear once again in the public scene.

First, I would like to say that the danger our country and the current political regime led by president Sisi are facing is not represented only in muslim brotherhood and all their likes of active or inactive terrorist cells whether here or abroad. Actually, I believe these abscesses are way more dangerous than muslim brotherhood. They are like the bedsores hidden under bed covers and while the doctor is busy curing the patient of the disease that made him stick to bed, the patient suddenly dies, not due to the illness, but because of the bad effects of those bedsores.

Due to my profession, I have to go daily through the newspapers, magazines and other social networking websites to know the updates and follow what is happening around us. And so I see what these abscesses write in the newspapers owned by private capital and some official newspapers. One then finds those rats – that is what they were and still are since the time of Mubarak and his son – suddenly behaving like brave eagles shoving their poisonous claws in the nation’s body. And so their mean savageness meet with that of the muslim brotherhood. They have no target but to attack the entity that protected the people in January 25 and corrected the course in June 30; that entity that have been removing all the stumbling blocks piled since the beginning of economic Infitah and aftermath of 1967 defeat.

The NDP abscesses have stayed inactive in the Egyptian body, hidden in its pivotal points and strategic places and when they started to appear once again, it turned out that they are monopolizing the whole country. They had no mercy over the Egyptian people starting from wheat and not ending by babies’ milk… and if anyone wanted to stand up to them, they would say: “hey, look… they are against free trade… they are against investment, profit and individual initiatives… they want us to go back to socialism, one-man rule and dictatorship”. They launch their campaigns attacking our Egyptian national army and the president who gave an example of himself when he donated half his salary and half of what he inherited from his father to the country… that man who ceases not to do his best on both the domestic and foreign domains.

Yes… they are revenging because I heard myself – I have already written about this – some of them condemning the role of field marshal Tantawi in January 25th revolution and blaming him for the people’s success to topple Mubarak’s regime along with his press and culture figures.

I would like to mention once again what we have written before during Mubarak’s time that the ruling fascist capitalism has two wings… one of them is the NDP and the other is muslim brotherhood who provides the moral cover for such capitalism… they justify all profits gained by that capitalism no matter how unjustifiably gross they are… and if anyone stood to them, they would deceivingly mention the Hadith saying “All things of a Muslim are inviolable for his brother-in-faith: his blood, his property and his honour"... meaning that nationalizing, controlling the country's resources or even putting regulations to bridle such unjustifiable profits to stay within a reasonable limit is considered Haram in their ideology.

And so the partnership between the two wings; Mubarak’s regime and musim brotherhood, took place when they occupied more than 25 percent of the parliament seats and took control of main key fields of the Egyptian economy.

In very simple direct words, I would like to say: the fight against terrorism shall not be limited to armed men, muslim brotherhood and terrorists. Actually, it should include those abscesses that hid long and are now fiercely rashing. In the next time, I shall present some examples for those abscesses through what they write in the press or social networking websites.

Translated into English by: Dalia Elnaggar


This article was published in Al Ahram newspaper on October 6, 2016.

To see the original article, go to:

#alahram #ahmed_elgammal #Egypt #NDP

قرح الحزب الوطني في الجسد المصري




صعب أن يلحس كاتب يفترض أنه يحترم فكره وقلمه رأيًا كتبه ودافع عنه من قبل.. هذا بمناسبة الطفح المتقيح الذي بدأ ينتشر على سطح المجال الفكري والثقافي والصحفي مؤخرًا، متمثلا في نفايات أفرزها الحزب الوطني ذات لحظات كالحة من تاريخ هذا الوطن!

كنت قد كتبت بعض المقالات بعد ثورة يناير أميز فيها بين ما أسميته مثقف الدولة وبين مثقف النظام، لأؤكد أن الأوطان لا تبني بالسالب ولا بالخصم من رصيد عقولها المتميزة، وأنه ليس كل من انتمى لتنظيم أو حزب بناه النظام من أعلى ثم انتهى ذلك التكوين يعد خائنا أو عميلا أو خادما أو انتهازيا، لأنه قد تمر فترات لا يملك فيها المثقف أو التقني العالم والباحث والمخطط ورجل التنفيذ إلا أن ينخرط في القنوات التنظيمية الرسمية ليتمكن من خدمة وطنه ويتجنب العراقيل التي توضع في طريق من هو بعيد عن العين ليصير بعيدًا بالتالي عن القلب! وسقت آنذاك أمثلة ابتداء من حسن العطار ورفاعة الطهطاوي اللذين انضويا في ظل محمد علي باشا ثم أجيال لحقتهما وصولا إلى تنظيمات ثورة يوليو من هيئة التحرير للاتحاد القومي ثم الاتحاد الاشتراكي والتنظيم الطليعي، إلى أن وصلنا لحزب مصر ثم الحزب الوطني!

نعم كانت الغالبية من جحافل غير الموهوبين المصابين بالأمية السياسية والثقافية والأخلاقية، وكان الصعود في غالب الأحيان من نصيب "اللبلاب.. والعليق"، تلك المتسلقات التي تحيط بجذوع الأشجار الرئيسية وتتسلقها فتخفيها وأحيانا تمتص غذاءها من عصارة تلك الأشجار، ولكن كان هناك أيضا أكفاء موهوبون علماء ثقافة وخلقا لم يجدوا سبيلا سوى هذه الدروب ليسلكوا فجاجها ليفيدوا وطنهم! ثم إنني ناشدت أولئك العلماء المثقفين المخلصين ألا ينكفئوا ولا ينعزلوا، وأن يبحثوا عن طريقة يستمر بها عطاؤهم لوطنهم وإلا صدقت فيهم مقولة الانتهازية، واستجاب بعضهم وبدأ في العطاء مجددا، إلا أن المرحلة الآن بدأت تشهد ظاهرة أقل ما توصف بها أنها "مقرفة" لأنها طفح قروح صديدية من بقايا الحزب الوطني!

وبداية فإن من يظن أن الخطر على الوطن وعلى المنظومة السياسية الحالية التي يقودها الرئيس السيسي يكمن في الإخوان الإرهابيين ومن على شاكلتهم بخلاياهم الإرهابية النائمة وشبه الكامنة والأخرى المتحركة في الخارج فهو واهم، لأنني أذهب بل أؤكد أن هذه القروح الصديدية أخطر من الإخوان بمراحل، مثلما هو خطر قرحة فراش تقيحت وحجبتها الأغطية عن نظر المعالج، فيما لم يغفل نظره ولا اهتمامه عن المرض الأصلي الذي أرقد المريض في سريره! وفجأة تأتي النهاية بسبب من آثار القرحة وتداعياتها وحدها!

ولأن الواجب المهني يقتضي أن يطالع المرء يوميا الصحف والمجلات وغيرها حتى مواقع التواصل الاجتماعي ليعرف ماذا يدور من حوله وليتابع ما يستحق المتابعة، فإنه رغم أنفه تقع عينه على القذى الذي تفرزه تلك القروح في صحافة رأس المال الخاص وفي بعض الصحف الحكومية، وإذا بالمرء يجد من هم فئران بالحقيقة- لأن هذا ما كانوا وبقوا عليه أيام مبارك ووريثه- لبسوا مسوح الكواسر فجأة وأنشبوا مخالبهم المسمومة في جسد الوطن لتتداخل وحشيتهم الرخيصة مع وحشية الإخوان الدنيئة، وليس لهم من هدف إلا سقوط المنظومة التي حمت الشعب في 25 يناير وصححت المسار في 30 يونيو ومضت في الطريق تزيح آلاف العقبات الوخيمة التي تراكمت منذ بداية الانفتاح الاقتصادي بل ومنذ السعي لإزالة آثار عدوان 1967.

لقد بقيت تقرحات الحزب الوطني كامنة في الجسد المصري مختبئة في مفاصله وعقده العصبية، وعندما بدأت في الظهور تبين أنها متمكنة من الاحتكارات، ولم ولن ترحم شعب مصر، ابتداء من القمح وليس انتهاء بلبن الأطفال.. وإذا أراد أحد التصدي لهم قيل: "اِلحق" إنهم ضد حرية التجارة.. وضد الاستثمار وضد الربح وضد المبادرات الفردية.. وإنها العودة لعصر الانغلاق والاشتراكية وحكم الفرد والديكتاتورية.. ثم تتكاتف جهودهم وحملاتهم لاغتيال شخصية جيش مصر الوطني ولاغتيال شخصية رئيس الجمهورية الذي بدأ بضرب المثال بنفسه عندما تنازل عن نصف راتبه وعن نصف ما ورثه عن أبيه، ولا يرتاح لحظة واحدة عن الإنجاز والعمل على الصعيدين الداخلي والخارجي!

نعم.. إنه "ثأر بايت" بين فلول الحزب الوطني وتقرحاته وبين القوات المسلحة المصرية، لأنني سمعت بأذني- وقد سبق أن كتبت ذلك- أحدهم يدين دور المشير طنطاوي في 25 يناير ويلقي باللائمة عليه في نجاح الشعب بإزاحة نظام مبارك ومن ثم رموز صحافته وثقافته.. وهنا أعيد إلى الأذهان ما سبق وكتبناه في أوج حكمهم من أن الرأسمالية الفاشية الحاكمة آنذاك لها جناحان، أحدهما هو الحزب الوطني والثاني هو الإخوان المسلمون الذين يشكلون الغطاء الأخلاقي لتلك الرأسمالية، ومن باب "أحل البيع وحرم الربا"، وكل ربح تجنيه تلك الرأسمالية مهما كان فحشه هو من باب الربح المباح، وإذا تم التصدي بأي طريقة لهذا الفحش قيل على الفور "المسلم على المسلم حرام.. دمه.. وعرضه.. وماله".. أي أن التأميم أو السيطرة على موارد الوطن أو حتى تنظيم الربح بحيث لا يكون فاحشا مبالغا في امتصاص دم الناس هو من باب الحرام المؤثم.. ولذلك كانت الشراكة بين نظام مبارك وبين الإخوان يوم أن احتلوا ما يزيد على ربع مقاعد البرلمان وسيطروا على أجزاء مفصلية مهمة في الاقتصاد المصري.

وبلغة مباشرة بسيطة أقول: إن الحرب ضد الإرهاب لا ينبغي أن تقتصر على محاربة المسلحين والإخوان والإرهابيين، بل يجب أن تشمل تلك القروح التي اختبأت طويلا وظهرت بفداحة الآن.. وفي المرة المقبلة قد أقدم أمثلة على تلك التقرحات من خلال ما يكتبونه ويشيعونه في الصحافة ووسائل الاتصال.
                           
نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 6 أكتوبر 2016.

Tuesday, 4 October 2016

شجون.. وصحون!




أعتذر للقارئ عن عدم الكتابة الأربعاء الفائت، وأقدم الاعتذار بنفسي لأن "المصري اليوم" ربما كان لديها ظروف حالت دون ما تعودنا عليه من أن تقدم اعتذار الكاتب إذا لم يكتب، ثم أقدم الشكر مضاعفًا للأستاذ محمد أمين، على خلقه الرفيع وسؤاله عن العبد لله!

ولأن في الصراحة راحة، كما أن "الكدب خيبة"، فإنني لا أخفي أن حبي للكتابة في المصري لدرجة ترقى إلى الإدمان لحِقه ما يشوبه، إذ أجد نفسي في سؤال معضل هو: أليس من الأفضل أن تصبح الصحيفة- أي صحيفة- تعبيرا نقيا عن اتجاهها الذي يتبناه ممولوها ويجنح إليه خطها التحريري، وينضح بوضوح في معظم مادتها الصحفية، رأيا كانت أم غير ذلك، وأن يبتعد أولئك الذين يجدون ما يكتبونه نشازا عن المعزوفة عن إشارات ونظرات المايسترو، حتى لا يكونوا مجرد "فاسوخة" أو "ديكور"، لزوم وجاهة "التعددية" و"الرأي الآخر"، وربما كان أولئك "النشاز" ضرورة لإشباع هواية أو "غريزة" حب الاقتناء المتنوع الذي يسعى إليه رأس المال، إذا وصل لمرحلة بعينها من مراحل غريزة الاستحواذ!

نعم، وبصراحة، يتصفح المرء صفحات المصري فيجد "أوركسترا" أقرب لفرقة "حسب الله"، حيث تغلب آلات النفخ والإيقاع الضخمة، تؤدي كل ما يمكن أن يؤدي ولاء ووفاء للعصر الملكي الذي انقضى منذ حوالي ستة عقود ونصف العقد، ولعصري السادات ومبارك، بل وللوهلة الإخوانية- الوهلة كوحدة زمنية- وأيضا تؤدي كل ما يمكن أن يؤدي عداء وخصومة وهجوما على حقبة واحدة هي الحقبة الناصرية وثورة يوليو!

ورغم أنني وصفت ذلك من قبل بأنه صار كاريكاتوريًا مثيرا للسخرية، وأن أصحابه يبدون كالمصابين بالمتلازمة المرضية "سندروم" تعلُّ عليهم مثلما تعل الحساسية الجلدية على بعض الخلق فيأخذون في الهرش والتلذذ به حتى وإن أدموا جلودهم لدرجة القروح.. بل حتى وإن بدوا يؤدون "نمرة" على خشبة متهالكة، خارج إطار الزمن الأمر الذي يذكرني بالنكتة الشهيرة التي مختصرها أن أفنديا معتبرا كان يسير في طريقه لقريته ووجد فلاحا يبكي متشنهفا بحرقة، فسأله: لماذا تبكي؟ فأجاب الفلاح: أبكي على جمال عبد الناصر الذي مات منذ قليل! ورد الأفندي المعتبر: من هو جمال عبد الناصر؟ فقال الباكي: الزعيم اللي عمل كذا وكذا والسد العالي وثورة يوليو 1952؟ ويسأله الأفندي: ثورة يوليو على مين بالضبط؟ ويرد صاحبنا: على الملك فاروق؟ ثم: فاروق مين ده؟ ويرد الفلاح: فاروق ابن فؤاد الأول! وعندها صاح الأفندي المعتبر باكيا وضاربا كفًا بكف: لا حول ولا قوة إلا بالله هل فؤاد أنجب.. ومات كمان؟!

ربما سيقول من يظن أنه عليم بالتفسير النفسي للتاريخ: هذا الذي يريد أن يمنع غيره من التعبير عن أفكارهم وعن الكتابة.. معذور لأنه ينتمي إلى مدرسة أو اتجاه في التفكير والممارسة فاشي أحادي ديكتاتوري متسلط.. وها هو قد "نأح" عليه اتجاهه المضاد للديمقراطية والتعددية! وأقول: قد يكون ذلك صحيحا عند قائله، ولكن ليست هذه هي القضية التي أتحدث فيها، حيث أتحدث عن مدى ضرورة ووجاهة أن تكون المطبوعة "يومية أو أسبوعية أو شهرية أو ربع سنوية.. إلى آخره" تعبيرا نقيا خالصا عن توجهها الذي أنشئت لأجله، وهناك من غامر بماله وإمكاناته وأعصابه وجهده في سبيل ذلك، وأنه قد يكون من الأصوب للحراك السياسي والاجتماعي، وأيضا الفكري وجود مؤسسات إعلامية وسياسية واضحة تماما في توجهاتها دون أي رتوش أو تداخلات من توجهات أخرى وأهداف مغايرة!

إنني لا أنكر أن لي عينا في الجنة والأخرى في النار، وأنني أقدم رجلا وأؤخر الثانية، حتى بعد أن استمزجت رأي آخرين أثق في إخلاصهم، إذ أحببت الكتابة في هذه الصحيفة وصار هناك ارتباط وثيق بيني وبينها، فلا أملك إلا أن أطالعها كل صباح، ناهيك عن ود أزعم أنه عميق مع المهندس صلاح دياب، رغم الاختلاف البيّن بين كثير من آرائنا إلا أن له بصمة إنسانية ودودة لا ينكرها إلا غليظ الذهن جاف النفس، وود مماثل مع عديد من الزملاء فيها على رأسهم الأستاذ محمد أمين، ولكن في الوقت نفسه يجد المرء نفسه غريبا عن السرب، باللون والصوت والتكوين، خاصة أن القلم لا يستطيع أن يبقى منغمسا دوما في أحبار تنتمي إلى حقب "الدواية" الممتلئة بهباب الفرن الذائب في البصاق.

ولقد راودتني دوما الاستعانة بما كتبه الصديق الموهوب خفيف الظل، الأستاذ أسامة فوزي، حول ذلك الصحفي المصري الذي كان يعمل في صحيفة تصدر في "أبو ظبي"، وكيف كان مضحكا- لدرجة تطفر فيها الدموع من شدة الضحك- مشهده وهو يحمل صينية الإفطار والشاي لسيده النفطي، أو أن أكتب عن طواشية صحافة جمال مبارك الذين عرفت بعضهم عن قرب ولي مع أكثر من واحد منهم طرائف مثيرة مضحكة بغير حدود، إلا أن هموم الوطن، ووجود ما هو أكثر أهمية من اشتباكات مع من لا يعرفون أن فؤادا الأول أنجب فاروقا الأول ومات، وأن حسني الأول أنجب جمالا الأول وكليهما مدان بحكم نقض نهائي مبرم غير قابل للإلغاء، وأن التاريخ له مناهج وقواعد وأدوات تسري على الجميع من فؤاد لفاروق لناصر للسادات لمبارك لمرسي، وشتان بين التاريخ وبين الهلفطة.. مثلما هي المسافة بين الصحفي حامل الفكرة وبين الصبي حامل صحون الإفطار والشاي! هي هموم وقضايا أحق بالمتابعة وأولى بالاجتهاد.
                         
نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 5 أكتوبر 2016.