للأحداث الجارية خبراؤها، بين متخصصين وبين
مهتمين، كما أن لها جهابذتها، والفرق بين المتخصصين وبين المهتمين وبينهما وبين
الجهابذة هو أن المتخصص يكون في الأغلب ممن درسوا الفرع العلمي الذي ينضوي الحدث
في إطاره وتعمقوا في أحد فروع ذلك الفرع العلمي، كأن يكون المتخصص دارسًا للعلوم
السياسية ومتخصصًا في العلاقات الدولية وأعد أطروحته في السياسة الخارجية لدولة ما
أو إقليم بعينه، وربما في العلاقة بين منظمات أو دول وهلم جرا، ثم إن المهتم قد
يكون ممن بذلوا جهدهم وأفرغوا وسعهم في التتبع المنتظم والعميق لظاهرة من الظواهر
السياسية أو الاقتصادية أو المعلوماتية، ودأب على حضور مؤتمرات وندوات وإجراء
مقابلات وحوارات وعقد مناظرات حول نقطة اهتمامه المباشرة، وأحيانا يكون المهتم
أكثر دراية من المتخصص بالدراسة ليتأكد الفرق بين الدراسة النظرية على الورق وبين
الممارسة الفعلية على أرض الواقع، أما الجهبذ فهو غالبية من لا يفلتون حدثًا إلا
وتصدوا للفتوى فيه، غير مبالين بأي قواعد مهنية تلزم المتصدي- خاصة إذا كان من أهل
الصحافة والإعلام بوجه عام- بأن يستوفي المعلومات ويمحصها ويتحرى دقة مصادرها،
وغالبا ما يؤدي الجهابذة إلى تعقيد المواقف وإفساد المسارات وتشويه الحقائق، بما
تنعكس آثاره المدمرة على علاقات الدول ومصائر الأوطان.
وهناك أمور لا يتوافر لها خبراء ومهتمون
وجهابذة، لأنها غير مغرية بالتناول، إما لتوقع انصراف القارئ عن قراءتها لأنها
بعيدة عن اهتمامه، وإما لأنه لا شهرة ولا مكسب من ورائها، ومن تلك الأمور ما أنا
بصدد الكتابة فيه اليوم، وهو محاولة قراءة بعض جوانب حياة مجتمعنا من خلال تناول
ظاهرة ما أو سيرة شخصية بذاتها!
فاليوم يمر عام على رحيل صديق وأخ كبير جمعتني
به صداقة فيها تناقض مثير، إذ ينتمي- رحمة الله عليه- إلى جهاز الشرطة، وقضى معظم
سني عمله ضابطًا في المباحث العامة، التي صارت مباحث أمن الدولة، ثم أضحت الأمن
الوطني! ولأنني منذ 1968 من المشاغبين سياسيًا على المستوى الداخلي المصري وعلى
الصعيد العربي، بل وربما العالمي بحكم الواقعة التي جرت في فبراير 1984، وفيها
نزلت دولة عظمى- بل الدولة الأعظم- عن عظمتها "وعملت عقلها بعقل" واحد
من العامة الذي هو العبد لله، وكان أن أرسلت سفارتها في أبو ظبي رسالة رسمية
بالإنجليزية والعربية إلى رئيس تحرير جريدة "الخليج" التي كنت أعمل بها
آنذاك وأكتب عامودًا يوميًا؛ تحتج فيها على ما أكتبه، مقدمة أرشيفًا بتواريخ
تجاوزاتي من وجهة نظرهم، واعتبروني ذا توجه إرهابي يضر بمصالح شعب ودولة الإمارات!
أقول لأنني كنت مشاغبًا، فقد كنت ضمن اهتمامات
المباحث العامة، ثم أمن الدولة، ولا أعرف هل الأمن الوطني الآن مشغول بأمثالي أم
لا؟! وعليه فقد كنت- ولفترة طويلة- ضمن اهتمامات وعمل صديقي الأخ العزيز اللواء
مصطفى عبد القادر، الذي وصل لأن يكون مديرًا لأمن الدولة، ثم تولى موقع وزير
التنمية المحلية، وقبلها محافظا للمنيا! والذي كان دومًا يؤكد لي أمام الجميع:
"لولا أننا كنا نقبض عليك ونحبسك لما أصبحت زعيمًا ومفكرًا، وكان زمانك حرامي
بدرجة وزير أو أمين تنظيم"، ثم يذكر تفاصيل ما عرضوه على العبد لله من أن
يصبح نائبًا لرئيس حزب مصر بدرجة نائب رئيس وزراء.
اقتربنا بعد أن ترك العمل في الدولة، وصرنا
أصدقاء، نلتقي ربما يوميًا لأكتشف أن ضابط أمن الدولة المحترف جدًا يملك روح شاعر
وموسيقي وحكاء من طراز بديع! ولأكتشف أن العاملين في الدولة الذين وصلوا لأرفع
موقع، وهو الوزير، يتوزعون بين عدة أنواع، وداخل كل نوع عدة درجات، مثلما هي
الكائنات الحية في عالمنا الدنيوي! وأن من تلك الأنواع نوعًا شريفًا محترمًا
متفانيًا ومخلصًا يعرف الصح والغلط مثلما يعرف الحلال والحرام، ويعلي من شأن عمله
وولائه للوطن على حساب راحته وأسرته، ويبقى دومًا- حتى بعد ترك الخدمة- محترمًا
لتقاليد عمله وقواعد القانون، فلا يفشي سرًا، ولا يبتز أحدًا، ويسيطر بقسوة بالغة
على شهوة الحديث وشبق الشهرة وألق ادعاء الأهمية بأثر رجعي.. وهكذا كان الشاعر
والعازف والحكاء مصطفى عبد القادر!
دخل كلية الشرطة "البوليس" رغم أنفه،
لأنه كان يود أن يدرس الطب، وخضع لمشيئة أبيه الأستاذ محمد عبد القادر، مراقب عام
البرامج السياسية في الإذاعة المصرية خلال الخمسينيات، بدخول البوليس، ولما كان
عمره أقل من المطلوب، وطول قامته أقصر بقليل، جاء الاستثناء من مكتب جمال عبد
الناصر شخصيًا، وكان الذي وقّع على التوصية بالقبول هو السيد سامي شرف. وفي الكلية
كان صف ضابطه الأعلى طالبًا يسبقه بعام أو عامين، وظل صديقه إلى أن جلست معهما
عشرات المرات، وهو رماح الدكروري، اللواء بالمخابرات ورئاسة الجمهورية فيما بعد،
الذي كان ينبه الطالب مصطفى بتعليماته، حتى وهما معنا، ضاحكين على العشاء في أحد
النوادي الاجتماعية!
في كلية الشرطة تخرجت أول دفعة درست ليسانس
الحقوق مع بكالوريوس العلوم الشرطية عام 1959، وهي دفعة مصطفى عبد القادر.. ثم
توزيع إلى محافظة الجيزة.. وطابور ضباط ملازمين جدد يقف أمام سيادة مدير الأمن،
فتصدر من أحدهم حركة أو ضحكة تودي به إلى جنوب المحافظة، ويتجه مصطفى إلى قسم
الجيزة.. وهناك يصطدم بأول صدمة.. الباشا المأمور وعلاقاته الغرامية.. وضابط
المباحث الذي يترك مكتبه لتجلس فيه "فتوة" أو بالأصح بالعامية
"فتواية" الجيزة المعلمة "سكسكة".. جسد نسائي هيولي ذو صدر
مهيب.. وحضرة الملازم- حامل ليسانس الحقوق- يشاهد حضرة معاون المباحث وسكسكة تجذبه
لتدفن رأسه في فتحة صدرها ليشم رائحة الكولونيا الثلاث خمسات المعتبرة.. وحضرة
المعاون يستغيث: "هاموت يا سكسك.. اتخنقت"!
وكما اكتشف حضرة الملازم الحقوقي سطوة المعلمة
التي كانت مساهمتها فعالة ولا غنى عنها في ضبط الحالة الأمنية، وفي تقديم قضايا،
وإلى آخره، اكتشف سطوة صف الضباط من الصول وانت نازل.. واكتشف السطوة العليا
للعلاقات الشخصية، خاصة النسائية، مع بعض السادة القيادات في المديرية والقسم!
ولأنه يملك حاسة الشعر وهواية العزف على بعض
الآلات الموسيقية وروح الحكاء الروائي كان اقترابه شديدا من قهوة عبد الله في
الجيزة، التي كانت مقر الإقامة الليلية يوميًا لمجموعة من أشهر أدباء مصر.. محمود
السعدني.. وعبد القادر القط.. وأنور المعداوي.. وزكريا الحجاوي وغيرهم!
ومن هناك إلى المباحث العامة، حيث كان المدير هو
الشخصية الفذة اللواء حسن طلعت.. وحيث الخدمة مع كبار من عينة حسن أبو باشا.. وفي
المباحث العامة ومن بعدها أمن الدولة تخصص في الشئون العربية، وكان يساعده شخصيات
أخرى، لا تقل فرادة، منهم: شوكت حسني ومحمد عبد القادر! ومن اختصاص الشئون العربية
متابعة كل الطلاب العرب الدارسين في مصر ومتابعة مكاتب التنظيمات الطلابية
والسياسية العربية.. وهذا الملف بحد ذاته يحتاج مؤلفًا خاصًا!
وفي خدمته يشاء قدره أن يكون في المجموعة
الأمنية التي تسافر مع الرئيس جمال عبد الناصر.. تصل قبله لتأمين وصوله، وتقيم معه
لتأمين وجوده!
وفي المغرب، وبعد منتصف الليل بقليل، حيث درجة
الحرارة قرب الصفر المئوي أو دونه بقليل، يأوي الرئيس إلى غرفة نومه بمقر إقامته،
بالعاصمة المغربية، فيشعر بحركة في الشرفة "البلكونة"، ويفتح بابها، ليجد
"بتاع المباحث" كما كان يناديه، واقفًا في عز البرد.. ويسأله: ماذا تفعل
هنا؟ ويرد الشاب: أؤدي واجبي في حراسة السيد رئيس الجمهورية.. ويرد الرئيس: وأنا
رئيس الجمهورية آمرك بأن تدخل من هذا البرد.. ليرد الشاب: لا يا فندم لن أدخل
وأترك خدمتي.. ويشتعل الحوار لينتهي بأن يخلع الرئيس الروب الذي يرتديه ليضعه بتاع
المباحث على كتفيه!
ثم يضعه القدر في مأساة "أيلول
الأسود"، أو أحداث سبتمبر في الأردن ليعيش تفاصيل الصدام بين الملك حسين
وجيشه وبين ياسر عرفات والمنظمات الفلسطينية.. وتفاصيل شديدة الدقة والإثارة حول
الاقتتال والموت، إلا أن الشاعر والموسيقي والحكاء يتوقف عند صاحبة البنسيون
المتحكمة في المياه شديدة الندرة، وفي الطعام الأشد ندرة، ويحكي عن لهجتها
الأرمنية، ونوادرها مع المقيمين عندها، وفيهم دبلوماسيون ورجال أمن ومخابرات، مثل
صاحبنا!
عشرات بل مئات من الوقائع والحكايات وآلاف
الأسرار كانت حبيسة صدر وذهن المواطن المصري الفذ الذي تتكرر نسخته مع اختلاف
المحتوى مئات ألوف المرات.. تشاهدهم وهم في أوج سلطتهم فتظن أن الدنيا دانت لهم
أبد الآبدين، ثم يتركون الكراسي ويبقون كما هم متواضعين راضين قانعين، لأنهم
أدركوا مبكرًا أنه يوم لك ويوم عليك، ولو دامت لغيرك ما وصلت إليك.
كم وددت أن أستمر في الكتابة، غير أن المساحة
غلابة، لذا فهو فصل من فصول دفاتر الذكريات التي بدأت أسطرها، وليت الأيام تتيح
فرصة استكمالها.
نشرت في جريدة المصري
اليوم بتاريخ 18 أكتوبر 2016.
No comments:
Post a Comment