أعتذر للقارئ عن عدم الكتابة الأربعاء الفائت،
وأقدم الاعتذار بنفسي لأن "المصري اليوم" ربما كان لديها ظروف حالت دون
ما تعودنا عليه من أن تقدم اعتذار الكاتب إذا لم يكتب، ثم أقدم الشكر مضاعفًا
للأستاذ محمد أمين، على خلقه الرفيع وسؤاله عن العبد لله!
ولأن في الصراحة راحة، كما أن "الكدب
خيبة"، فإنني لا أخفي أن حبي للكتابة في المصري لدرجة ترقى إلى الإدمان لحِقه
ما يشوبه، إذ أجد نفسي في سؤال معضل هو: أليس من الأفضل أن تصبح الصحيفة- أي
صحيفة- تعبيرا نقيا عن اتجاهها الذي يتبناه ممولوها ويجنح إليه خطها التحريري،
وينضح بوضوح في معظم مادتها الصحفية، رأيا كانت أم غير ذلك، وأن يبتعد أولئك الذين
يجدون ما يكتبونه نشازا عن المعزوفة عن إشارات ونظرات المايسترو، حتى لا يكونوا
مجرد "فاسوخة" أو "ديكور"، لزوم وجاهة "التعددية"
و"الرأي الآخر"، وربما كان أولئك "النشاز" ضرورة لإشباع هواية
أو "غريزة" حب الاقتناء المتنوع الذي يسعى إليه رأس المال، إذا وصل
لمرحلة بعينها من مراحل غريزة الاستحواذ!
نعم، وبصراحة، يتصفح المرء صفحات المصري فيجد
"أوركسترا" أقرب لفرقة "حسب الله"، حيث تغلب آلات النفخ
والإيقاع الضخمة، تؤدي كل ما يمكن أن يؤدي ولاء ووفاء للعصر الملكي الذي انقضى منذ
حوالي ستة عقود ونصف العقد، ولعصري السادات ومبارك، بل وللوهلة الإخوانية- الوهلة
كوحدة زمنية- وأيضا تؤدي كل ما يمكن أن يؤدي عداء وخصومة وهجوما على حقبة واحدة هي
الحقبة الناصرية وثورة يوليو!
ورغم أنني وصفت ذلك من قبل بأنه صار
كاريكاتوريًا مثيرا للسخرية، وأن أصحابه يبدون كالمصابين بالمتلازمة المرضية
"سندروم" تعلُّ عليهم مثلما تعل الحساسية الجلدية على بعض الخلق فيأخذون
في الهرش والتلذذ به حتى وإن أدموا جلودهم لدرجة القروح.. بل حتى وإن بدوا يؤدون
"نمرة" على خشبة متهالكة، خارج إطار الزمن الأمر الذي يذكرني بالنكتة
الشهيرة التي مختصرها أن أفنديا معتبرا كان يسير في طريقه لقريته ووجد فلاحا يبكي
متشنهفا بحرقة، فسأله: لماذا تبكي؟ فأجاب الفلاح: أبكي على جمال عبد الناصر الذي
مات منذ قليل! ورد الأفندي المعتبر: من هو جمال عبد الناصر؟ فقال الباكي: الزعيم
اللي عمل كذا وكذا والسد العالي وثورة يوليو 1952؟ ويسأله الأفندي: ثورة يوليو على
مين بالضبط؟ ويرد صاحبنا: على الملك فاروق؟ ثم: فاروق مين ده؟ ويرد الفلاح: فاروق
ابن فؤاد الأول! وعندها صاح الأفندي المعتبر باكيا وضاربا كفًا بكف: لا حول ولا
قوة إلا بالله هل فؤاد أنجب.. ومات كمان؟!
ربما سيقول من يظن أنه عليم بالتفسير النفسي
للتاريخ: هذا الذي يريد أن يمنع غيره من التعبير عن أفكارهم وعن الكتابة.. معذور
لأنه ينتمي إلى مدرسة أو اتجاه في التفكير والممارسة فاشي أحادي ديكتاتوري متسلط..
وها هو قد "نأح" عليه اتجاهه المضاد للديمقراطية والتعددية! وأقول: قد
يكون ذلك صحيحا عند قائله، ولكن ليست هذه هي القضية التي أتحدث فيها، حيث أتحدث عن
مدى ضرورة ووجاهة أن تكون المطبوعة "يومية أو أسبوعية أو شهرية أو ربع
سنوية.. إلى آخره" تعبيرا نقيا خالصا عن توجهها الذي أنشئت لأجله، وهناك من
غامر بماله وإمكاناته وأعصابه وجهده في سبيل ذلك، وأنه قد يكون من الأصوب للحراك
السياسي والاجتماعي، وأيضا الفكري وجود مؤسسات إعلامية وسياسية واضحة تماما في
توجهاتها دون أي رتوش أو تداخلات من توجهات أخرى وأهداف مغايرة!
إنني لا أنكر أن لي عينا في الجنة والأخرى في
النار، وأنني أقدم رجلا وأؤخر الثانية، حتى بعد أن استمزجت رأي آخرين أثق في
إخلاصهم، إذ أحببت الكتابة في هذه الصحيفة وصار هناك ارتباط وثيق بيني وبينها، فلا
أملك إلا أن أطالعها كل صباح، ناهيك عن ود أزعم أنه عميق مع المهندس صلاح دياب،
رغم الاختلاف البيّن بين كثير من آرائنا إلا أن له بصمة إنسانية ودودة لا ينكرها
إلا غليظ الذهن جاف النفس، وود مماثل مع عديد من الزملاء فيها على رأسهم الأستاذ
محمد أمين، ولكن في الوقت نفسه يجد المرء نفسه غريبا عن السرب، باللون والصوت
والتكوين، خاصة أن القلم لا يستطيع أن يبقى منغمسا دوما في أحبار تنتمي إلى حقب
"الدواية" الممتلئة بهباب الفرن الذائب في البصاق.
ولقد راودتني دوما الاستعانة بما كتبه الصديق
الموهوب خفيف الظل، الأستاذ أسامة فوزي، حول ذلك الصحفي المصري الذي كان يعمل في
صحيفة تصدر في "أبو ظبي"، وكيف كان مضحكا- لدرجة تطفر فيها الدموع من
شدة الضحك- مشهده وهو يحمل صينية الإفطار والشاي لسيده النفطي، أو أن أكتب عن
طواشية صحافة جمال مبارك الذين عرفت بعضهم عن قرب ولي مع أكثر من واحد منهم طرائف
مثيرة مضحكة بغير حدود، إلا أن هموم الوطن، ووجود ما هو أكثر أهمية من اشتباكات مع
من لا يعرفون أن فؤادا الأول أنجب فاروقا الأول ومات، وأن حسني الأول أنجب جمالا
الأول وكليهما مدان بحكم نقض نهائي مبرم غير قابل للإلغاء، وأن التاريخ له مناهج
وقواعد وأدوات تسري على الجميع من فؤاد لفاروق لناصر للسادات لمبارك لمرسي، وشتان
بين التاريخ وبين الهلفطة.. مثلما هي المسافة بين الصحفي حامل الفكرة وبين الصبي
حامل صحون الإفطار والشاي! هي هموم وقضايا أحق بالمتابعة وأولى بالاجتهاد.
نشرت في جريدة المصري
اليوم بتاريخ 5 أكتوبر 2016.
No comments:
Post a Comment