الكتابة عن الأزهر عند بعض الناس كالمشى فوق حبل معلق أعلى حقل
ألغام، لا لأن الأزهر جهة مقدسة معصومة لا يجوز المساس بها، ولكن لأن لأولئك البعض
رحما ونسبا معه، وصلة تجعل الواحد منهم يتردد طويلا وهو ينتقى كلماته، وأنا واحد
من هؤلاء، لأن جدى لأمى المتوفى 1942، وأبى المتوفى 1988 وأخوالى الأكبر من أبى
والأصغر منه، ثم عشرات من صبيان وصبايا الجمالين وأنسبائهم وأصهارهم هم أزهريون
أقحاح اختار معظمهم كلية الشريعة لتحصيل دراسته الجامعية، اعتقاداً من الرواد
الأوائل- الجد والأب والأخوال- أن من لم يدرس أصول الفقه ليس بعالم، ثم إن
الاعتقاد الراسخ عندهم أن العلم علمان.. علم شريف هو ما يدرس فى الأزهر، وعلم فقط
هو بقية ما يدرس خارجه، وكثيرا ما كنت أجد على هوامش ملازم الكتب المفككة التى كان
يجمعها غلاف من الجلد الطبيعى تحسيناً لخطوطهم بأن يكتبوا أسماءهم بالنسخ أو
الرقعة وتحتها عبارة «طالب العلم الشريف»!
ومع ذلك ورغمه وبعد أن طفح كيل الوطن من كل ما هو إرهاب وتخلف
وازدواج للمعايير تعين على البعض أن يسير فوق الحبل أعلى الحقل.. حقل الألغام.
قلت من قبل إن الإيغال فى تعقيد العلوم الشرعية وجعلها طلاسم
تسبب فى أمرين غير محمودين، أولهما اضطرار المتلقى للحفظ والاستظهار بدلا عن الفهم
والتمحيص والإبداع، وثانيهما ظهور نزعة الاحتكار لدى شريحة من البشر قالوا عن
أنفسهم إن هذا العلم علمنا والطلاسم شيفراتنا وليس لأحد أن يقترب.. وهكذا شئنا أم
أبينا ظهرت شريحة الكهنوت أو رجال اللاهوت مثلما حدث فى شرائع سبقت الإسلام فى
النزول، وكنت قد ضربت مثلاً بيوحنا الإنجيلى الذى اتجه فى روايته اتجاها أشد
تعقيداً عن اتجاه الإنجيليين الثلاثة متى ومرقس ولوقا، غير أن الأخطر والأشد
ضراوة- وآسف لاستخدام أفعل التفضيل- هو أن ازدواج التعليم فى مصر منذ مطالع القرن
التاسع عشر، وعدم قدرة الدولة ككل- شعبا وسلطة- على توحيده أدى إلى ازدواج ثقافى ووجدانى،
وإن جاز التعبير ازدواج أيضا فى منظومة المعايير التى يقاس عليها وبها!
إننى أقاوم نزوعا داخليا عندى يشدنى للغوص وراء الجذور القديمة
لهذه الظاهرة، وكيف كنا نسمع من معاصرينا، ونحن صبية أو شباب، أهالينا من الفلاحين
والحرفيين والتجار بل وبعض الأثرياء يؤكدون أنهم وهبوا ابنهم فلان للعلم الشريف أى
للأزهر.. وهو أمر يرتد للقديم المصرى أو الشرقى عموما الذى كان فيه لكل إله
معابده، وللمعابد خدمها من الذكور وأحيانا الإناث، الذين يوهبون للبقاء هناك طمعا
فى رضا الإله.. وطمعا أيضا فى أن يصل الموهوب إلى صفوف المقدمة اللاهوتية فيصير من
المتميزين اجتماعياً، حيث كان التراتب الهرمى يسمح بأن يكون الكهنة وقادة الجند
والنبلاء على رأسه..
وكان أن احتكر الكهنة- فى فترات الاضمحلال خاصة- كل شىء ابتداء
من مغفرة الذنوب وليس انتهاء باحتكار الشأن العلمى، حتى إن بعض المؤرخين الذين اجتهدوا
لمعرفة كيفية الانهيار الغامض للحضارة المصرية القديمة يذهبون إلى أن احتكار
الكهنة للعلوم والتطبيقات العلمية أدى إلى أن يكون المجتمع جاهلا، وعندما حدث
واضمحل وجود الكهنة انهارت الحضارة وصارت مصر نهباً للتدخل الأجنبى والاحتلال على
يد الفرس والإغريق والرومان!
وأعود إلى موضوعنا، وهو الازدواجية الثقافية والوجدانية
والمعيارية وسيادة الجهل والتخلف، فأجد أن الاقتصار فى الأزهر الشريف على دراسة
العلوم الشرعية، ورفض محاولة الشيخ حسن العطار فى القرن التاسع عشر لتحديثه كانت
سببا كامنا وراء التخلف الاقتصادى والاجتماعى والثقافى، ولعلنا نعلم أن هذا البلد
الزراعى فى الأساس ظل يستخدم الشادوف- ذراع خشبية طويلة مزودة بحبل يتدلى منه وعاء
من الأمام وثقل حجرى أو طينى فى القاعدة- للرى ثم أدخل الإغريق الطنبور- أنبوب
فيثاغورث- والساقية!
وبقينا على الشادوف والطنبور والساقية أمدا طويلا، ولم نعرف
القناطر والأهوسة ونظم الرى المتقدمة نسبيا إلا مع التعليم المدنى وبعثات محمد على
إلى أوروبا!.. بل إننا سنجد مقاومة للعلوم الحديثة حتى خارج الأزهر، وما قصة تحريم
دروس التشريح فى مدرسة الطب وتصدى الإمام محمد عبده لمن قالوا بحرمتها إلا دليل
مباشر وسريع على ما أذهب إليه!
لقد صارت عندنا مرجعية تقول بالحلال والحرام، وأخرى تقول
بالصحيح والخطأ.. وصارت عندنا مرجعية تقول ليس فى الإمكان أبدع مما كان، وأخرى
تقول كل يوم هو فى شأن!! وهلم جرا.. حتى وجدنا من يقاوم ديكتاتورية إسماعيل صدقى
باشا وفى مواجهته من يهتف: «واذكر فى الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد!!»، بل
وصل الأمر إلى ترتيب الصفوف فى بعض المناسبات حيث يتقدم المعممون يليهم المطربشون-
لابسو الطرابيش- وبعدها حاسرو الرأس، أى الذين بلا عمامة ولا طربوش!، ووصل الحال
إلى أن يحتدم الجدل ويتصاعد الصراع بالعراك الساخن حول مرجعية الدستور والقوانين،
وعشنا فى الأعوام القليلة المنصرمة الاشتجار حول هل هى الشريعة أم هى مقاصدها أم
هى مبادئها، وكيف أن نائب رئيس الدعوة السلفية المسمى ياسر برهامى أخذ يشرح ذات
مرة كيف استطاعوا اختطاف تلك المادة الدستورية من الآخرين بعد أن أرهقوهم وواصلوا
الليل بالنهار حتى إذا خلا لهم الجو فازوا بما اختطفوا!
ولقد اقترحت من قبل أن يبقى التخصص فى العلوم الشرعية فى نطاق
دراسة جامعية وفوق جامعية، أى ماجستير ودكتوراه، ويتم توحيد التعليم العام لكل
المصريين ذكورا وإناثا، مسلمين ومسيحيين، وعندئذ تكون المعضلة وهى كيف التصرف مع
آلاف المدرسين والمدرسين الأول والموجهين بدرجاتهم والنظار والمدراء والإدارات
والموظفين فى مجال التعليم الأزهرى العام، أى الإعدادى والثانوى وبقية كليات جامعة
الأزهر، وأقول إنها يمكن أن تحل بمراحل انتقالية وتتحول المعاهد إلى مدارس ويعاد
تأهيل المدرسين ليقوموا برسالتهم، بل ما المانع فى أن يتم توجيه بعض تلك الجحافل
إلى مهمة أراها من صميم خدمة دين الله ألا وهى محو الأمية.. حيث أعتقد أن المسلم
الذى لا يعرف القراءة مخالف لما هو معلوم من الدين بالضرورة، لأن الأمر القرآنى
«اقرأ» لا يقل وجوبا عن الأمر القرآنى «أقيموا الصلاة»!.
نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 16
يونيو 2015.
No comments:
Post a Comment