Tuesday, 23 June 2015

جحش زينب




تقول الحكاية الشعبية المتداولة فى بعض الكتب وعلى ألسن كثير من أهل الطريق المتصوفة إن الشيخ عبدالوهاب الشعرانى كان شيخا للأزهر، وكان يسكن فى المنطقة التى حملت اسمه بعد ذلك «باب الشعرية»، وكان يمضى كل صباح ويعود بعد العصر ممتطيا بغلته فى طريقه لعمله ومنه، وكان يمر فى طريقه بحانوت «دكان» لرجل يعمل خوّاصا، أى يجدل خوص النخيل ليصنع منه الأوعية الخوصية، كالمقاطف والقفف والشلايت «جمع شليتة التى كان يحمل فيها التبن والطين» وغيرها، والناس تتوافد إليه لتقبل يديه وتجلس معه، وأحيانا يشاركون حلقات الذكر «الحضرة» التى كان يعقدها فى مجلسه.. وسأل الشعرانى عن اسم الرجل فقيل له «علىّ الخواص»، وإنه ولى من أولياء الله الصالحين.. واشمأز الشيخ الأزهرى الفقيه المعمّم من المشهد، وصار يرشق صاحب الدكان بعبارة يكررها على مسامعه كلما مر عليه: «ما اتخذ الله من ولى جاهل»!!.. وكل مرة يرد الخواص بابتسامة عريضة ويقول له: تفضل شاركنا أكل «البيصارة»!.. ولما ازدادت الجرعة وعمد الشعرانى إلى تكرار عبارته «ما اتخذ الله من ولى جاهل» رد عليه الخواص ضاحكا: «اتخذه وعلمه يا جحش زينب».. وإذا بالشعرانى يقفز نازلا من على ظهر ركوبته ويهرول إلى الخواص ويجثو بين يديه ويحاول تقبيلهما.. وعزم عليه الرجل بالبيصارة فأخذ صاحبنا قليلا جدا بطرف أصبعه الصغير، وعندما تذوقها أراد أن يهجم على بقية الصحن فمنعه صاحب الدكان!!.. وقال: هذا يكفيك! وأصل الحكاية أن الشعرانى كان قد تزوج حديثا من صبية صغيرة اسمها زينب، وكان يلاعبها وهو شيخ كبير وراهنها ذات ليلة على أن يسابقها فى الركض داخل فناء داره ومن يحرز السبق يمتطى ظهر الآخر.. وكان أن غلبت زينب وامتطت ظهر مولانا!!.. ولذلك عندما تمادى فى عبارته إياها مع الخواص كاشفه الأخير بما جرى.. أى أنه تعلم علما لدنيا، من لدن الله سبحانه وتعالى يعرف به ما لا يعرفه أصحاب العلم التكسبى الدنيوى!
تلك الحكاية على ما فيها من مبالغات قد تبدو للبعض تشير إلى لبّ ما أود الوصول إليه، وهو أن الناس من عموم المسلمين ومن خواصهم أيضا «طهقوا» وتعبوا من تعقيدات المتشرعين الذين حولوا بإرادة أو بغير إرادة العلاقة بين المرء وبين الله إلى طريق شديد التعقيد وعر المسالك، وصارت البساطة التى اقترنت بدعاء عمر بن الخطاب «اللهم إيمانا كإيمان العجائز» أمرا بعيد المنال! وأصبحت المجتمعات أمام حتمية لا فكاك منها، وهى أن تبحث عن طريق يعود بها إلى البساطة الأولى الفطرية التى جعلت من العلاقة بين الإنسان وربه علاقة فردية خاصة محلها القلب الذى يتعين استفتاؤه «ولو أفتوك.. ولو أفتوك.. ولو أفتوك»، وأصبحنا أمام علم لدنىّ يقذفه رب العزة العليم الخبير فى قلوب عباده الذين اختارهم واختصهم به وجاوزوا به الآفاق، وصرنا أمام التشرع والتصوف وبالجمع بينهما يحدث التحقق، وكما كان هناك أئمة فى مجال الفقه وأصوله وما عداه من العلوم الشرعية، صار هناك أقطاب فى مجال التصوف والتحقق وعرفنا أهل الصفّة وعرفنا الأئمة من آل البيت وعرفنا أقطاب الغوث الأربعة: الرفاعى والجيلانى والبدوى والدسوقى، كما سمعنا عن أقطاب الوقت الذين يظهرون فى مراحل متعاقبة.. وكما عرفنا الترقى فى تحصيل العلوم الشرعية بين طلاب العلم الشريف إلى أن يصبحوا مشايخ للحلقات وللأعمدة أى أساتذة كرسى، عرفنا أيضا الترقى فى مدارج الترقى الروحى والوجدانى، وأولها المكاشفة كتلك التى فعلها الخواص مع الشعرانى، حيث أصبح الثانى درويشا فى حضرة الأول وكانت لحسة البيصارة التى حاول الشعرانى بعدها التهام الصحن كله كاشفة عن غطاء بصره فرأى آفاقا وعوالم لم يرَها من قبل!
وأقصى درجات الترقى أن يمنّ عليه الله بأسرار الأمر «كن فيكون»، إذ صار عبدا ربانيا، ولكنه يستحيى من ربه أن يفعلها وهو فى مقام الإحسان إذا حضر لم يعرف وإذا غاب لم يفتقد!
لقد أدى التعقيد فى اللاهوت المسيحى إلى أن يتجه بعض المؤمنين إلى التوحد الرهبانى فى الفيافى والقفار للإفلات بإيمانهم الفطرى البسيط، يعاشرون الوحوش ويصارعون الشياطين ويفتح عليهم بمراتب إيمانية لم ينَلها أولئك الذين بقوا داخل الهياكل والمجامع المسكونية يتجادلون حول الطبيعة وعلاقة الناسوت باللاهوت وغيرها.. كما أدى التعقيد فيما سمى بالعلوم الشرعية من فقه وغيره إلى أن يتجه بعض المؤمنين إلى طريق المجاهدة الصوفية، وكلما زهدوا وتنسكوا وتعبدوا رُزقوا علما لَدُنيًّا ـ لام مفتوحة ودال مضمومة ونون مسكونة وياء مشدودة مفتوحة ـ أى من لدن، أى من عند الله سبحانه مباشرة، دون مرور على أصحاب فضيلة ولا أئمة كبار ولا أساتذة ولا مساعدين لهم!! نعم.. حدث فى أحيان كثيرة أن يتفوق أهل الحقيقة فى الشريعة والتصوف معا وأن يكونوا أساتذة لكبار الفقهاء، كما كان جعفر الصادق أستاذا لأبى حنيفة وحالات عديدة أخرى، وحدث أيضا أن افترقت السبل بين علم شريف هو عندنا ما يدرس فى الأزهر الشريف، وبين علم لدنى وكأنما أراد أصحابه أن يقولوا: إذا كان علم البعض شريفا فعلمنا لدنى من لدن الله سبحانه وتعالى!
لقد حاول الناس أن يفلتوا بجلودهم من سطوة الذين أصبحوا يفرضون أنفسهم على ضمائرهم ويدخلون فى صميم علاقتهم بخالقهم، بينما الناس تعلموا فى الإسلام أنه الدين الذى لا توجد فيه وساطة بين المرء وخالقه ولا يوجد فيه كهنوت من أى نوع!، وعبثا يحاول أصحاب الفضيلة الإعلان عن أنهم ليسوا كهنوتا وليسوا أوصياء.. وفى الوقت نفسه هم من يتدخلون فى كل أمر من المعاملات والعبادات والعقائد، وحتى الصدقات التى يتعين فيها ألا تعرف الشمال ما أنفقت اليمين!
واتجه الناس إلى إشباع احتياجاتهم الروحانية عبر طريق آخر غير طريق الجلباب القصير والشارب المحفوف وكراهية الآخر الذى من غير الملة وغير المذهب وغير المجموعة الفلانية من داخل المذهب نفسه!
ملخص الأمر هو أن المسار الذى أسسه ومضى فيه فقهاء صحون المساجد الجامعة ومن بعدها فصول وقاعات المعاهد والكليات أضحى عبئا على الأمة كلها، بعد أن ادعى أصحابه أنهم الفئة المتميزة فى الفهم والوحيدة التى تمثل المرجعية فى شؤون الدين والدنيا معا، وهناك على الشاكلة نفسها جماعات ادعت لنفسها القوامة على دين الناس ودنياهم، مثل من يسمون السلفيين والإخوان وما اشتق منهم من جماعات تتنفس التضييق على خلق الله وتستبيح دماءهم وتستحل أموالهم وأعراضهم.
وليس معنى كل ما سبق هو إلغاء التخصص فى العلوم الشرعية وما يتصل بها من معرفة، ولا هو بخس علماء الدين حقهم فيما قدموه ويقدمونه، ولكن المعنى هو أنهم استمرأوا الكسل الذهنى والارتكان إلى تراث كانت له ظروفه الموضوعية بالجغرافيا والتاريخ والاجتماع والثقافة، وتعاملوا مع أدمغة خلق الله على أنها أوعية يملأونها بما يشاءون وفقما ووقتما يريدون، ولم يسألوا أنفسهم سؤالا محددا هو: لماذا بقيت الأمة على حالها وتتدهور عقائدها ومعاملاتها وعباداتها مرحلة بعد مرحلة فيما هم آخذون فى التكاثر والتزاحم حتى إنك لو فتحت صنبور الماء لنزل منه واحد يحدثك فى نواقض الوضوء وكيفية مضاجعتك لزوجتك؟!.. وللحديث صلة.
                             

نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 23 يونيو 2015.

No comments:

Post a Comment