حاولت أن أتجاهل الموضوع، وقلت فى نفسى ولها إن الناس يحاولون
ولا بأس من المحاولة فى زمن تعز فيه المحاولات.. وكله يريده جاهزا بدون أى جهد..
ومع ذلك لم أستطع الاستمرار فى التجاهل. أما الموضوع فهو ندوة أو مؤتمر أقامه
المجلس الأعلى للثقافة بعنوان «ثورتا يناير ويونيو تقييم موضوعى أو رؤية
موضوعية».. حلو!
ثم استكمل الحلو شرباته بأن قامت على الأمر لجنة التاريخ، ثم
أضيف للشربات مزيد من مكسبات الطعم فجاءت أغلب الأسماء من أساتذة التاريخ!
حلو بمرارة العلقم، وشربات بملوحة- ولن أقول زفارة- الفسيخ،
لأننى حاولت أن أفهم لماذا التقييم أو الرؤية الآن، ونحن لانزال فى قلب الأحداث،
فلم يسعفنى ذهنى، وحاولت أن أطرد أشباح أساتذتى الراحلين أحمد عزت عبدالكريم وأحمد
عبدالرحيم مصطفى ومحمد أنيس، وأصدقائى من الأساتذة الأحياء عاصم الدسوقى
وعبدالخالق لاشين وعلى شلبى ومحمد فؤاد المرسى وغيرهم، فظلت الأشباح تطاردنى وتنده
كما نداهة الفلاحين: «لا تصمت وإلا فأنت شريك فى الجريمة».
علمونا، وأظنهم علموا الذين كانوا فى ندوة المجلس الأعلى الذى
يرأسه مؤرخ، أن دارس التاريخ يتصدى لدراسة الأحداث والظروف التى تمت، ومضى على
تمامها مدة كافية من الزمن قدروها بالمدة التى تشترطها هيئة الأرشيف البريطانى
للإفراج عن الوثائق وهى ثلاثون عاما.. ومع ذلك فإن العقود الثلاثة يمكن أن تمر ولا
يفرج عن وثائق بعينها أو عن أجزاء من وثائق بذاتها!
ولأن هناك فرقا كبيرا بين شاهد العيان المشارك فى الأحداث أو
المراقب لها وبين دارس التاريخ، فإن الأخير لا يصح له أن يمارس عمله على نفسه،
بمعنى أن شاهد الحدث أو المشارك فيه وهو يروى أو يرصد ما شارك فيه أو راقبه فإنه
يلزمه من يقرأ شهادته قراءة نقدية تعتمد أدوات منهجية معلومة لكل من يعملون فى هذا
الحقل، ولا أظن أن الذين شاركوا فى الندوة من مدرسى التاريخ وأساتذته بالجامعة
أخضعوا رؤاهم للضوابط المنهجية المتعارف عليها!
والكارثة أن بعض الأسماء التى أُعلن عن مشاركتها من أساتذة
التاريخ معلوم عنها الجدية والرصانة والابتعاد عن الزفة، أياً كانت الزفة، ولا
أدرى كيف تيسر لهذه الأسماء أن تتجاوز الحدود العلمية؟!
ربما هى المكافأة.. وربما هو الإحراج من رئيس المجلس وهو أستاذ
تاريخ.. وربما هو ظنى بأن المشاركة تعنى الوجود تحت أنظار أركان النظام والحكومة،
وممكن تكون الندوة بتوجيه من فوق.. أى فوق حتى ولو كان وهمياً!
لا أفهم أن دارساً ومدرساً للتاريخ الحديث والمعاصر يملك الجرأة
على أن يعمل عملا أو يحل محل دارس ومدرس السياسة والاجتماع وعلم النفس الاجتماعى..
لأن الثلاثة «سياسة- اجتماع- علم نفس اجتماعى» يمكن أن يتعاملوا مع الأحداث أثناء
وقوعها وسريانها، ويمكن لبعضهم أن يضع الفرضيات والسيناريوهات ويناقشها ويراجح
بينها.. ويمكن لبعضهم أن يرصد آليات وديناميات الحدث والبشر، وأن يقدم تحليله وفق
ما يملكه من أدوات بحثية يتيحها علم مناهج الفرع الذى ينتمى إليه.. أما أن يأخذ
المؤرخ دور عالم السياسة وأستاذ الاجتماع وعلم النفس الاجتماعى والعكس، بمعنى أن
يتصدى أستاذ السياسة لدراسة الأحداث التاريخية أو يترجم لشخصيات تاريخية بذاتها،
فهذا خلل.. وهذا هو جزء من جوهر المصيبة التى نعيش فيها.. لا أحد يقوم بعمله.. ولا
أحد يلتزم بتخصصه.. وكثيرون يسطون على عمل غيرهم، وينسفون الأسس العلمية المتعارف
عليها، ونبقى إزاء السمك واللبن والتمر هندى وعائشة وأم الخير!
ولا أدرى هل سيتكرم المجلس الأعلى للسمك واللبن والتمر هندى،
الذى أضحى «عزبة متوارثة» منذ زمن، يتوارثها من يرتاح إليهم الوزير أو الرئيس الذى
ستنتهى مهمته، وربما يشكلون معه شلة من الأتباع والأشياع بصرف النظر عن الكفاءة،
هل سيتكرم وينشر أعمال الندوة وما وصل إليه فلاسفة التاريخ الذين تصدوا لما لا
يمكن أن يتصدى له توينبى وماركس وبليخانوف وكل فلاسفة التاريخ المثاليين والماديين
من دروس تفيد البلاد والعباد، أم أنه سيكفى على الخبر (ماجور) وتبقى الأوراق ضمن
الأضابير التى ربما تُطبع وتبقى فى المخازن إلى أن تجد طريقها لشركة راكتا إذا
كانت لاتزال قائمة؟!
ويا حضرات السادة مدرسى التاريخ فى الجامعة، أو يا خوجة إنت
وهو وهى.. احترموا التخصص، واستقيموا فى الأداء حتى لا تضللوا تلامذتكم يرحمكم
الله.
نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 2
يونيو 2015.
No comments:
Post a Comment