مصادفة التحقت بالعمل الصحفى أواخر عام 1979 بعد أن تكاتفت
ظروف سجن وإيقاف عن العمل لقطع طريقى كمشروع باحث قيل إنه كان واعدا فى مجال تاريخ
مصر الحديث والمعاصر!
ومصادفة أن كنت ومازلت أدير منذ ثلاثين عاما مكتب إحدى كبريات
الصحف العربية الخليجية فى العاصمة المصرية، ولذلك كانت مصادفة أيضا أن أمتلك
استطاعة فك شفرة رداءة خطوط كثير من كبار الكتاب، وأن أراجع سطور عشرات من
الصحفيين الذين صار بعضهم نجوما على الفضائيات فأعيد الصياغة للبعض وأكاد أشق
الهدوم من صدمة ضعف الإملاء وانعدام النحو والصرف وتلاشى الأمانة الصحفية عند بعض
آخر!.. ولذلك ناديت ومازلت أنادى نقابة الصحفيين بأن تتصدى للأمية الصحفية..
والثقافية.. والسياسية.. وأيضا الأخلاقية تلك التى تفشت فى الوسط وصار البعض
يتباهى بها ويعتبر أن وصوله لكراسى رئاسة التحرير ولشاشة الفضائيات، رغم أميته
المركبة، دليل على عبقريته وتفرده!
وكان مصادفة لمرات لا أعرف عددها أن زاملت عديدين ممن اهتموا
بالعمل النقابى وتمرسوا فيه واحترفه بعضهم، وأن ألتقى بمن كانوا يستضيفونهم من
العينة نفسها أثناء الترتيب لانتخابات المجلس أو النقيب.. وفى هذا تفاصيل ربما
يأتى وقت يسمح بأن أكتبها وأنشرها.. من وجهة نظرى طبعا! وفى هذا السياق وارد أن
أتذكر مخالفتى ذات مرة إجماع مجموعة من الناصريين على انتخاب شخص بذاته نقيبا،
وكتبت مؤيدا منافسه، وكانت العقوبة التى أنزلوها على العبد لله هى منعى من كتابة
عموده فى جريدة «العربى» الناصرية! فضلا عن حملات السباب والتشهير التى لم تترك
شيئا يخصنى إلا ونهشته.
يعلم السادة الزملاء من قيادات النقابة ورموز النضال من أجل
الحريات الصحفية والحريات العامة ما أعلمه معهم عن قيادات نقابية مصابة بوباء
الأمية المركبة إياها.. وعن آخرين طرطش على ملابسهم وأبدانهم رذاذ شبهات الاستفادة
غير المشروعة فى سفريات الحج والعمرة، والسلع المعمرة والأراضى والعقارات
والإعلانات والشيخ الفاسى والتطبيع مع العدو الصهيونى ومجاملات إدخال السكرتيرات
والمحاسيب فى عضوية النقابة العتيدة.. ومع ذلك ورغم تكرار الحالات وفداحة المجاهرة
بالمعصية النقابية والأخلاقية فإن النقابة لم تتخذ موقفا حاسما رادعا لأى من
هؤلاء!
أكتب هذا ومستعد لأن أفصل بتفاصيل لا حدود لها فيما الجماعة
الصحفية تخوض ما قد يرقى لمستوى المعركة الحقيقية من أجل الحريات الصحفية ومن أجل
الحفاظ على نصوص وروح الدستور المصرى فى هذا المجال، لأننى كنت ومازلت أعتقد أن
أسلم وأقرب طريق لصون الحريات الصحفية وحقوق الجماعة الصحفية هو أن تؤدى تلك
الجماعة عبر نقابتها وبجهود نخبتها وقياداتها واجباتها الأساسية وعلى رأسها إعادة
تأهيل مئات الصحفيين المصابين بداء الأمية الهجائية والإملائية والنحوية والخبرية
والثقافية والسياسية وأيضا الأخلاقية.. والعمل على ضبط الأداء المهنى بحيث لا تكون
مهنة الصحافة هى الباب المفتوح على «البهلى» لطعن الوطن فى أمنه ومقدراته وتماسكه
وقوته وتوازنه ودوره فى محيطه وفى العالم، إذ لا يمكن أن يكون الصحفى هو ذلك
الطبيب الذى قيل إنه خرج على الملأ ليعلن أنه ضحى بالأم وبالجنين من أجل نجاح العملية!
إننى أتساءل مع السائلين وبحق: متى ستقدم نقابة الصحفيين على مساءلة بعض أعضائها
ممن يعتبرون أنفسهم نجوما فى سماء الإعلام والعمل السياسى عن شبهات ترقى إلى وقائع
حقيقية تمس ثرواتهم ومشروعاتهم وعلاقاتهم بالمال الإعلامى والمال السياسى فى
الداخل والخارج، وعن شبهات ترقى إلى المستوى نفسه تؤكد أنهم يجمعون بين الخدمة فى
بلاط صاحبة الجلالة، السلطة الرابعة، وبين مسح بلاطات لسلطات أخرى؟!!
نحن جميعا ضد أى جور من السلطة التنفيذية على الدستور ولو
بالقانون، وضد أى استبداد من أى نوع وأية درجة ومن أية جهة يعيدنا إلى زمن كانت
نتيجته هى ما نعانيه من أهوال تفتت وتفكك ودمار وإرهاب، فما بالك إذا كان الجور
والاستبداد موجهين للصحافة وللرأى.. ولابد أن نكون جميعا ضد كل ما سبق أن ذكرته عن
أحوال الجماعة الصحفية.
أعلم أن البعض ممن أعتز بهم سيغضب من هذه السطور وأكاد أسمعه
معاتبا مغاضبا: «هكذا أنت دائما تختار أسوأ توقيت لتعبر فيه عن رأيك فتبدو وكأنك
ممن يخالفون ليعرفوا.. كل كلامك صحيح ولكن التوقيت غير صحيح بالمرة.. إذ لا يجوز
فيما الجماعة تخوض معركة مصيرية حاسمة أن يخرج واحد منها ليظهر فيها القطط
الفطسانة»!
وأقول من ناحيتى إن المعركة هى أنسب ظرف للتطهير والتطهر..
وأنسب مناخ لتصحيح الأخطاء وتقويم المعوج والتخلص من الطوابير الخامسة!!.. ولأننا
إذا مددنا الخيط ليصل من أرض الصحفيين إلى أرض الوطن فإننا سنجد أن الوطن يخوض
معركة أعتى وأشرس وأشد خطورة من كل معاركه التى سبقت منذ الغزو الهكسوسى والفارسى
والإغريقى والرومانى، وهلم جرا إلى الاحتلال البريطانى والإسرائيلى، ولا يمكن
وبالمعايير نفسها أن يكون الجيش والشرطة والشعب كله فى هذه المعركة وتجد من يطعن
الوطن بالمعلومة المضللة التى تفت فى عضد المقاتلين وتقوض عزيمة الصامدين وتشكك
الجماهير وتفقدها الثقة فى القائمين على الدفاع عن تراب الوطن واستقلاله وحضارته
وثقافته ومستقبله، وأن نجد اختلاطا وخلطا معيبا بين حق التفكير والتعبير والمعلومة
وغيره من حقوق وثيقة الصلة بمهنة الصحافة وبين التضليل وتقويض أمن الوطن.. ولذلك
فإن مقتضيات واجب الدفاع عن حقوق الصحافة مرتبطة أشد الارتباط بمقتضيات واجب
الدفاع عن الوطن وأمنه وحضارته وثقافته ومستقبله.
تلك كانت كلمات تراكمت فى فمى الذى كان ملآناً بالماء، وأنتم
تعلمون أن من فى فيه ماء يعجز عن النطق.. ولكن أمام ضراوة ما تواجهه مصر كان لابد
من التخلص من أى ماء يعوق كلمة يعتقد صاحبها أنه إن لم ينطقها فإنه شيطان أخرس..
أما حكاية التوقيت فإننى أراها حقا يراد به باطل، إذ إننا لو كنا فى مناخ من
الاستقرار السياسى والرفاهية الاقتصادية والأمن الشامل الذى لا يدمره إرهاب ولا
ينتهكه أعداء ممتدون من أنقرة لتل أبيب للدوحة لكان الصمت عن عيوب الجماعة التى
ننتمى إليها واجبا أمام ضراوة الخطر الذى يهددها، أما إذا كنا فى مناخ نعرفه جميعا
فإن الجراحة اللازمة لإصلاح المسار الوطنى كله لابد أن تشمل كل جماعة فرعية مهما
كانت مكانتها وقدسيتها.
إننى أزعم أن الجهاد الأكبر للصحفيين ونقابتهم هو السعى الجذرى
لإصلاح الجماعة الصحفية، بحيث لا يبقى فيها عاهات مهنية وإعاقات بشرية.. وبعد إذن
الذين سيغضبون بسبب «التوقيت» أسألهم: متى هو التوقيت المناسب الذى لم يأت عبر
أكثر من نصف قرن فى حياة النقابة؟ ولماذا لم يقدم أحد على الإصلاح والتصحيح فى
فترات لم تكن فيها النقابة تخوض معركة مقدسة؟
نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 14 يوليو 2015.
No comments:
Post a Comment