إن السلام حقيقة مكذوبة/ والعدل فلسفة اللهيب الخابي. لا عدل
إلا إن تعادلت القوى/ وتصادم الإرهاب بالإرهاب!
تلك كلمات أبى القاسم الشابى تقفز إلى ذهنى كلما أمعن الصهاينة
اليهود فى التنكيل بالشعب والتراب الفلسطيني، وكلما أوغل الصهاينة المسلمون فى
تدمير مقدرات الوطن واغتيال شخصيته وقتل أبنائه.. وهم صهاينة على الطرفين، لأن
كليهما عنصري، ولأن كليهما يزعم اعتماد مرجعية دينية، ولأن كليهما يعتمد العنف
الدامى والترويع القاسى منهجا وأداة للوجود، ولأن كليهما يستهدف تدمير الأمة
العربية وتقويض كل ما هو محبة وعدل وسلام!
لم يصبح لدى المرء أى مساحة فى عقله وصدره ومرارته للقبول بأى
وسيلة للتعامل مع الصهاينة الإخوان، ومن شاكلهم سوى وسيلة الردع الشامل.. الشامل
عمقا ومساحة وعلى كل الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ولذلك وقبل حادث
اغتيال القاضى المبجل المستشار هشام بركات، اشتبكت بقوة مع الذين تجشأوا فكرة
إرجاء تنفيذ الأحكام ضد الإرهابيين وضمنا مع كل الذين يظنون أن الحوار والقبول
بالآخر يتضمن حتما التعايش مع العنصريين الصهاينة الإخوانيين وأشباههم، وفى
مقدمتهم أولئك الذين ينالون من المواطنة فى مصر، ويصفون المواطنين المصريين المسيحيين
وغيرهم بأنهم كفار مصيرهم نار جهنم!
ومن الطبيعى أن يجنح المرء وهو فى أشد حالات الاحتقان الغاضب
إلى التفكير فى توسيع نطاق المجابهة بأن تتشكل فرق شعبية للعمل المقاوم، وتحمل
السلاح المرخص لتحمى أبراج الكهرباء ومحطاتها والجسور والقناطر وخطوط السكك الحديدية
ومرافق الدولة، بل ومقار الحكم وإقامة كبار المسئولين.. وهكذا تفعل كل المجتمعات
أثناء حالات الحرب. وفى هذا تحضرنى واقعة طريفة توضح إلى أى مدى يمكن أن يستيقظ
شعور المقاومة والرغبة فى حماية الوطن ومطاردة كل من يهدد أمنه، وهى واقعة حقيقية
حدثت عقب هزيمة 1967 عندما تلقى الصديق الإعلامى المرموق الأستاذ عبد الوهاب قتاية
تكليفا من «صوت العرب» لمتابعة ردود الأفعال الإيجابية لدى الجمهور بعد الهزيمة،
ونزل فعلا إلى ميدان سيدنا الحسين ومعه جهاز التسجيل، حيث لم تكن مثل هذه الأجهزة
منتشرة بين الناس، وما أن بدأ يتحرك ليسأل وشاهد الناس الجهاز الغريب حتى صاح
بعضهم: «جاسوس»، وتجمع كل من فى الميدان من حول الرجل وبدأوا فى الهجوم عليه، وهو
يصرخ مفصحا عن هويته كمذيع، وعن مهمته الوطنية بلا جدوى إلى أن صاح هذه هى بطاقتى
الشخصية واسمى عبدالوهاب قتاية.. فهل تعقلون أن يهوديا اسمه قتاية؟!
مغزى الواقعة أن الوعى بالخطر عندما يتعمق وتتسع دوائره يصبح
المواطن العادى حجرا فى مدماك من مداميك حوائط الصد الحضارية والثقافية والأمنية!
سيقولون إن هذا الكلام تحريض على الكراهية ونفى الآخر ودعوة لمكارثية مصرية على
غرار مكارثية أمريكا إلى آخر معزوفة الذين يعزفون نوتة الكاتالوج معروف اللحن
ومعلوم الهوى.. وأقول نعم لكراهية العنف والقتل والتدمير وسحق الهوية الحضارية
والثقافية للوطن، ولا لأى آخر يمارس العنف والقتل ويدمر النسيج الوطني، لأنه هكذا
فعل كل البشر الأسوياء فى المجتمعات التى أرادت التقدم والبناء.. حدث هذا فى
ديمقراطيات الغرب ضد النازية والفاشية والتمييز العنصري، وحدث هذا فى الأديان
السماوية وفى صميم عقائدها، كما سبق وأشرت فى مقال سابق، حيث تحدث السيد المسيح عن
الحيات أولاد الأفاعى من الكهنة مدعى الوصاية على الدين، وحيث تحدث القرآن الكريم
عن المنافقين وعن الهمازين اللمازين وغيرهم من الذين يستهزئون بآيات الله، وما
القتل والعنف والتدمير باسم الدين الإسلامى إلا استهزاء بشع بآيات الله سبحانه
وتعالى.
ثم أستأذنكم فى التأكيد على أن المواجهة الشاملة يجب أن تمتد
إلى بذل جهد عملى وعلمى لاحتضان أسر شهداء الإرهاب، أى الثكالى والأرامل واليتامى،
ليس فقط من الناحية المادية، وهى مهمة، بل أيضا من الناحية النفسية والمعنوية، حيث
عشرات الأطفال اليتامى أبناء الشهداء فى عمر لا يساعدهم على امتصاص الصدمة.. صدمة
فقد الأب والرعب من طريقة فقده ثم انعكاس حالة الأم وبقية الأسرة عليهم، الأمر
الذى يقتضى تحركا ناجزا من كل الهيئات المعنية بالرعاية النفسية الاجتماعية.. بل
ربما يقتضى الأمر إنشاء فرع متخصص فى علم النفس الاجتماعي، وفى علم نفس الطفل
وغيرهما من فروع ذات صلة بالموضوع، وتبدأ الممارسة الفعلية بزيارات منزلية للأمهات
والجدات والأجداد وبقية الأسرة وللأطفال أنفسهم لتقديم كل ما يكفل تأهيلهم وبناء
شخصيتهم وتقوية عناصر الصلابة والاستمرارية الصحيحة لديهم.
وفى هذا المقام يهمنى أن أتوجه بالشكر مجددا لكل الذين تفضلوا
بالتواصل مع المبادرة التى طرحتها فى هذه المساحة منذ فترة، وقدموا مساندتهم
المالية، والشكر أيضا للصديق الأستاذ محمد عبد الهادى علام رئيس التحرير، والزميل
الأستاذ أحمد البرى مدير التحرير المسئول عن البريد، لتبنى المبادرة وتخصيص حساب
لاستقبال المساهمات، غير أن هذا لن يكفي، كما أسلفت، وبالتالى أدعو إلى تطوير
المبادرة فى اتجاهين، الاتجاه الأول هو تلك الرعاية النفسية المعنوية التى لفت
نظرى إليها الصديق الأستاذ محمد عبدالعال عيسى فى تعليق له على «فيس بوك»!،
والاتجاه الثانى هو توفير الرعاية الطبية، وفى هذا الصدد بدأ كاتب هذه السطور
الاتصال بنخبة من أكفأ وأكبر الأساتذة فى الجراحة والقلب والنساء والأطفال لتوفير
فرص فى عياداتهم ومستشفياتهم بالمجان لأسر ضحايا الإرهاب، ويمكن لبريد الأهرام أن
يقدم خدمة فى هذا الإطار بأن تحصل الأسرة على خطاب منه للطبيب المقصود يوضح أن
الأمر متصل بالشهداء.
إن جدار الفعل المقاوم يجب أن تتعدد مداميكه ليعلو ويصبح حائطا
متينا للصد الحضارى والثقافى والاجتماعى وكذلك الأمني، فوعى المواطن وتعميق إدراكه
بمصادر الخطر ومكامنه وجهاته كفيل بضمان المشاركة الشعبية فى الجانب الأمني، مثلما
حدث بعد 1967.. وكلنا يذكر أن الجريمة الجنائية اختفت تقريبا فى فترات بعينها..هى
تلك الفترات التى تأكد للناس فيها أن الوجود العضوى للوطن.. ترابه وشعبه وكيانه فى
خطر داهم.
نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 2 يوليو
2015
No comments:
Post a Comment