سنصلي العيد غدًا كما تعودنا.. وسنعود لنفطر مع أهلنا.. وسنوزع
العيديات على أبنائنا وأقاربنا.. وسنتبادل الكعك والبتي فور والغريبة والحلويات مع
جيراننا، مسيحيين ومسلمين، وسنستقبل المعيدين.. وسندعو لآبائنا وأمهاتنا بالرحمة
أمواتًا وأحياء..ولن نرضخ للإرهاب الذي لا يريد صلاة في المساجد والميادين
والساحات، ولا يريد بهجة ولا ودًا ولا صلة أرحام.. ويريدنا فئرانًا مذعورة تتزاحم
في الجحور!
وسنتواصل مع أسر شهداء الإرهاب الإخواني وإرهاب من تناسل منه-
بئس الناسل والمنسول- وسنبادر إلى تقديم الحنان والرعاية وفاءً للأيتام والثكالى
والأرامل الذين فقدوا رجالهم على يد أحقر وأخس كائنات، أولئك الذين صدق فيهم قول
ملائكة الرحمن «أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء»! وها أنذا أعيد تذكير كل
أهل الفضل من القراء ومن الأصدقاء بالمساهمة في الحملة التي دعوت إليها وتبناها
الأهرام لمساندة أهلنا ضحايا الإرهاب الإخواني، وأتوجه بالشكر ثانية وثالثة وإلى
ما لا نهاية للذين تواصلوا وقدموا المساندة من حر أموالهم وطلبوا ألا تذكر أسماؤهم.
ثم أنتقل إلى واحد من الهموم الكبرى التي تمسك بخناق كثيرين..
أنا واحد منهم.. وهو الهمٌّ المتصلب العلاقة بين قيادة النظام- وتحديدًا السيد
الرئيس عبد الفتاح السيسي- وبين الناس، خاصة الذين انحازوا وبصدق وإحساس
بالمسئولية الوطنية لترشيحه والدعوة له وانتخابه، ومنهم- وهم الأغلبية الكبرى- من
فعل ذلك دون أدنى تفكير في مطمع أو مكسب أو تميز، بل إن بعضهم لم يبالِ بالاصطدام
مع أقرب الناس إليه من رفاق مسيرته السياسية،وكانت القاعدة التي نستند إليها إذا
كان الأمر أمر واقع وطن ومستقبله.. وأمر مواجهة مع أحط وأخس عينة سياسية عرفتها
البشرية، فإنه لا مجاملة ولا مفاضلة على أساس من روح القطيع أو الانتماء
الأيديولوجي الضيق!
لقد كان ثمة دفء بين السيسي وبين هذه الغالبية،رغم أنهم لم
يقابلوه ولم يجلسوا إليه، وهو دفء استمد من متابعة خطواته وتحليل خطابه
السياسي،وتجسيده لنموذج القائد الذي يتقدم الصفوف،ويتعفف عن المغانم ويرفض
النفاق.. ويفهم الأولويات، ويقف على أرض واضحة بأقدام غير مرتجفة، ويتخذ القرارات
الصعبة في ظروف أشد صعوبة.. وينطلق بالوطن في آفاق دوائر حركته العربية والإفريقية
والإسلامية والدولية، ويحرز نجاحات واضحة لم تستطع أعتى العيون عداء أن تنكرها!وفي
الوقت الذي تحول الإرهاب من المظاهرات الهزيلة والهتافات الرذيلة إلى توجيه ضربات
نوعية في بعض المناطق الرخوة من جسد الوطن، شعر البعض بأن هناك فتورًا في العلاقة
بين الرئيس وبين تلك الغالبية، وضمنها نخبة فكرية وثقافية وسياسية لم تتكالب على
مكسب ولم تتصارع على كراسٍ وانتخابات وإلى آخره، وإنما فيها من نذر فكره وكلمته
وجهده للعمل الوطني، مقتنعا بقيادة رئيس انتخبه الشعب بنسبة حرة صحيحة غير مسبوقة.
ويمكن تشخيص بعض ملامح ذلك الفتور فيما يلي باختصار:
أولًا: إن هناك قرارات رئاسية تتخذ، وهي محصنة بالإجراءات
التشريعية السليمة، لكنها ليست محصنة بالتفاهم الضمني والتواصل المعنوي بين متخذ
القرار وبين الذين يجدون أنفسهم مكلفين- من أنفسهم وليس من أي طرف آخر- بأن يفسروا
ويحللوا ما اتخذ ويسوغوه لمن يرون فيه تعديا على مضامين ثورتي يناير ويونيو.
ثانيًا: تفشي وانتشار موجة لما يمكن أن نسميه «ديماجوجية»
إعلامية وسياسية، يقودها ويقوم بها من لا مصداقية لهم، من حيث تقلبهم على كل
الأقدام تحت كل الموائد، وقدرتهم على تحقيق مقولة أراد من صاغها أن يبين مدى فجور
من يفعلها لشدة صعوبتها: «إن البعض مستعدون لسلخ جلد بطون أمهاتهم ليصنعوا منها
طبولا يدقون عليها لأي حاكم»! وقد بدا أن تفشي هذه العينة، وعلو صوتها،وممارستها
الفحش الإعلامي والسياسي مرضيٌّ عنه- ولو بالسكوت والحماية الضمنية من
الحكم-ومعلوم أن نظم الحكم في كثير من الحالات زمانًا ومكانًا قد تحتاج إلى هذه
النوعية التي تقدم على ما يعف المحترمون المخلصون- الذين ليس لهم ثمن يُشترون به-
عن فعله، وسرعان ما يؤدي الفاحش وندورهم ثم يختفون، ولكن علينا أن ندرك- وفي
حالتنا المصرية- مدى التأثير السلبي لهذه الظاهرة، ليس على المخلصين المحترمين فقط
وإنما على مجمل التركيبة الاجتماعية، لأن وجود تلك العينة الفاحشة واستشراءها
واتساع دوائر تفاهتها يوحي بأن قطار الانتهازية لم يتوقف، وما زال فيه أماكن لركاب
جدد،وأن المخلص والمحترم الذي لن يقبل فعل ذلك لا مكان له.. وإذا كان له مكان
فبعيدًا عن الصفوف الأولى التي يحتلها المطبلون، ولو على جلود بطون أمهاتهم.
ثالثًا: غياب مصارحة الشعب بحقيقة مواقف شرائح الرأسمالية
المصرية من عملية البناء الوطني، بينما الناس يحسون بأنها مواقف سلبية أنانية، ومع
ذلك فإن قضية العدل الاجتماعي وإنصاف المسحوقين الذين تتسع دوائرهم بفعل الوضع
الاقتصادي غير المناسب لهم؛ تبدو حبيسة الخطاب الإعلامي والسياسي للرئيس، ولا
تتجاوز حدود الخطاب إلى الواقع الفعلي. ومن المؤكد أننا لسنا في ظروف تسمح بإجراءات
سياسية دراماتيكية وجذرية مثل التي كانت في مراحل سابقة شهدت الإصلاح الزراعي
بموجتيه، والتمصير ثم التأميم وهلم جرا،ولكن ليس هناك ما يمنع من إدارة الصراع
الاجتماعي- خاصة في أبعاده الاقتصادية- بحيث تتوازن قوة رأس المال؛ وقد أصبحت
طاغية إعلاميا وسياسيا وبالطبع اقتصاديا؛ مع قوة العمل، وهو ما يضمن أن يكون
الصراع عاملا للتقدم ولقوة الوطن..وفي هذا قد لا يقبل كثيرون أن يظهر الرئيس في
موقع المحايد غير المنحاز، لأن جزءا من الأجندة التي كوّنت مشروعيته الوطنية
والسياسية- حتى قبل انتخابه- هو ما أظهره من اهتمام وانحياز «للغلابة»وحديثه عنهم
في كل مرة وجه فيه خطابه للشعب وللمسئولين «إحنا حننسى الغلابة.. واللا إيه؟». إن
«الغلابة» تعبير دقيق عما آل إليه الوضع الاجتماعي الاقتصادي في الوطن.. رغم أن
البعض قد يرفض وبشدة إطلاقه على مواطنين لهم حقوق المواطنة كاملة، لأن ما آل إليه
الوضع هو انتشار وتعمق الظلم الاجتماعي بكل صوره ومضامينه، ويكفي أن الغلابة
أصبحوا يعيشون في معازلهم، وإن كانت باتساع الوطن في مواجهة معازل الأغنياء.. وفي
معازل الغلابة تعليم ولكن بلا تعليم.. وصحة كلها مرض.. وعشوائيات كلها قهر..وهلم
جرا.. فيما معازل الأغنياء هناك حق الاختيار بين تعليم بريطاني وأمريكي وفرنسي
وألماني وخلافه.. وصحة في المشافي الفندقية باهظة التكاليف.. وسلع في السوبر
ماركتات العملاقة التي يجر عرباتها الصغيرة مؤهلون جامعيون من الغلابة!
نعم.. هناك فتور.. وغموض.. وقلق وصل لدرجة الخوف من أن يكون الموقف
الجذري الذي اتخذ من الغالبية إلى جانب السيسي كمرشح رئاسي موقفًا صادرا عن إحساس
بالخطر أكثر منه صادرًا عن ثقة في الأمل.
نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 16
يوليو 2015
No comments:
Post a Comment