حاولت الاقتراب من الأستاذ هيكل.. واقتربت من
الأستاذ محمود السعدنى، وصادقت الأستاذ كامل زهيرى، وتعاملت عن قرب مع الأستاذ
محمد عودة والأستاذ فيليب جلاب، ونادمت بهجت عثمان وسعد هجرس ورؤوف عياد، وعرفت
محيى الدين اللباد، وكانت نوادر وطرائف بين ألفريد فرج وبكر الشرقاوى وصلاح الليثى
وبينى.. وآخرين قد لا أحصيهم فى عالم الصحافة والكتابة، أما فى عالم الحياة
الجامعية والثقافية والفكرية والفنية فقد تتلمذت على يد أعلام كان من حظى أن أتحول
بعطفهم ومودتهم من تلميذ إلى صديق، ومن لم يصادقنى لفارق المكانة والعمر لم يحرمنى
من مودة إنسانية عميقة..
ومازلت أذكر أستاذى وصديقى الراحل أحمد
عبدالرحيم مصطفى، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة عين شمس، الذى حصل على
الدكتوراه من بريطانيا وكان زميلا هناك للدكتورة حكمت أبوزيد، وهو من قدمنى إلى
أستاذه وأستاذى أحمد عزت عبدالكريم، رئيس جامعة عين شمس، ومؤسس «سمنار» الدراسات
العليا بقسم التاريخ، وكان مهيبا ينزل الرهبة بين تلامذته حتى وإن كانوا بدرجة
أستاذ وأستاذ مساعد ومدرس، ويردع بعضهم إذا نطق كلمة أجنبية بطريقة غير صحيحة أو
إذا انحرف بمنهج البحث عن الأصول العلمية السائدة.. وكان من قدمنى إلى الدكتور
أحمد عبدالرحيم، رحمة الله عليه، هو أستاذى الدكتور سيد مصطفى سالم- أمد الله فى
عمره- الذى تخصص بالماجستير والدكتوراه فى تاريخ اليمن الحديث والمعاصر، ولذا لم
تكن مصادفة أن ينذر نفسه لخدمة العلم فى اليمن ويعمل فى جامعة صنعاء، وينشئ مراكز
بحثية، ويكتب عشرات المراجع، ويشرف على عشرات الباحثين لدرجتى الماجستير
والدكتوراه هناك، واستمر وجوده هناك لأكثر من أربعين سنة ومازال يعطى بغير بخل ولا
كلل.
فى الجامعة تعلمت العلم والبحث والاهتمام بالعمل
العام، وانتخبت رئيساً لاتحاد طلاب الكلية، ثم ممثلا للدراسات العليا فى اتحاد
طلاب الجامعة، وبتلك الصفة كنت ضمن من قابلوا الرئيس الراحل أنور السادات يوم
الخميس 20 سبتمبر 1973 فى استراحة برج العرب بحضور السادة ممدوح سالم وكمال
أبوالمجد وإسماعيل غانم، وهو لقاء استمر من التاسعة صباحا إلى الثالثة بعد الظهر،
وكان من وراء ترتيبه الأستاذ هيكل وقصته تطول، وبقيت أعمل بالجامعة إلى أن دخلت
السجن فى يناير 1977 بتهمة التحريض على أحداث يناير 1977! وفى الجامعة تجاوزت حدود
قسم التاريخ وحواجز التلمذة.. فتعرفت على كثيرين من أساتذة الأقسام الأخرى، خاصة
الاجتماع وعلم النفس والفلسفة والدراسات الشرقية «العبرى، والفارسى، والتركى»،
والجغرافيا، ورغم مضى أكثر من خمسة وأربعين عاما إلا أن العلاقة بين بعضهم وبينى
مازالت قوية دافئة ويتفضلون هم بإبداء وجهة نظرهم الإيجابية غالبا فيما أكتب،
وأكرر من جانبى الامتنان والعرفان بالجميل! رغم اختلاف المشارب الفكرية والتوجهات
السياسية والمواقع الاجتماعية.
وأذكر أننى وزملائى فى سنة ثانية تاريخ، وكانت
مخصصة لشهادة العصور الوسطى، ندرس فيها تاريخ بيزنطة وأوروبا فى العصر الوسيط
والتاريخ الإسلامى، خاصة الدولتين الأموية والعباسية، وأيضا الدولة الفاطمية ودول
الموحدين والمرابطين فى المغرب العربى والحملات الصليبية، أن درسنا فحول من قامات
سامقة كالدكتور محمد عبدالهادى شعيرة للمغرب والأندلس، والدكتور عبدالمنعم ماجد
للفاطميين، والدكتور حسن حبشى للحملات الصليبية.. أما بيزنطة ومن ثم تاريخ الكنيسة
فكان العملاق العالم إسحق عبيد الذى ظللنا طوال العام لا نعرف ما إذا كان مسيحيا
أم مسلما، وهو يتدفق بعلمه الغزير فى المسيحية والإسلام إلى أن حكى كيف قُبض عليه
بتهمة الانتماء للإخوان عام 1959 وظل ثلاثة أيام يحاول أن يثبت أن اسمه بالكامل
إسحق تاوضروس عبيد! وعندها عرفنا أنه مسيحى!
ولا أريد أن أستطرد فى تفاصيل تلك المرحلة إلا
أننى لا أستطيع تجاوز جلسات نجيلة حديقة الجامعة بالقرب من سراى الزعفران وبالقرب
من آداب وحقوق، وكيف كانت النجيلة الممتدة تحت الأشجار الوارفة مكانا لجلسات تضم
الأساتذة والمدرسين والمعيدين والطلاب إناثا وذكورا، ويدور النقاش مع التهام
ساندويتشات الفول والطعمية القادمة من محل نجف فى العباسية، ويحتدم الكلام حول
قضايا الوطن، وكثيرا ما تم الترتيب للمظاهرات والاعتصامات والاحتجاجات، والتدبير
للمواجهات مع الإدارة والحرس.
كانت لدينا اتحادات طلابية قوية جمع أعضاؤها بين
النشاط العام والتفوق الدراسى والالتزام الوطنى السياسى.. وكانت فى الاتحادات لجان
شديدة الحيوية للثقافة والفن والجوالة والرحلات، وكان لدينا مسرح وملاعب.. وفرق
للتمثيل وعزف الموسيقى والرقص الشعبى، ولدينا نوادٍ ثقافية وسياسية، ونستضيف كبار
المفكرين والفنانين ونشتبك فكرياً من العصر حتى الفجر!
هى مساحة ممتدة من الجامعة للمجتمع عبر الصحافة
والمسرح ومؤسسات الفكر، ولذلك لابد أن أتساءل مع نفسى ومع غيرى: كيف انقلب الأمر
فى الجامعة وظهر التطرف الدينى والجماعات ذات المرجعيات الدينية، وكيف تفشت فى
الجامعة وسيطرت على مفاصلها وأرهبت وروعت الطلاب ثم الأساتذة ثم الإدارة.. متى
وكيف ومن وماذا ولماذا؟! كلها أسئلة لابد من الإجابة عنها بأمانة.. والأمانة دائما
ما تكون نسبية لأنها شهادة من أطراف مختلفة على أحداث بعينها.. ولا أنكر أن لدىّ
إجابة عن تلك الأسئلة محكومة بأنها وجهة نظرى التى يتعين أن تخضع لقواعد منهجية
تنقدها وتمحصها وتقارنها بغيرها من الشهادات!
ثم سؤال جوهرى آخر هو: كيف خسرت الجامعة ذلك
المناخ الخلاق البديع الذى مارسنا فيه التعلم والتثقف والاهتمام بهموم الوطن..
وعشنا فيه تجارب حبنا الأول الذى كان فى معظمه عفيفا شفيفا نذوب فيه إذا رأينا من
نحب، وتكون العيون والإشارات والإيماءات وعزومات «الحاجة الساقعة» فى الكافتيريا
أو من كشك عم جمال الكفيف الذى كان يعرفنا بأصواتنا ويعرف العملة الورقية
والمعدنية بأطراف أصابعه، وما إذا كانت عملة صحيحة أم مزيفة أو أنها ليست عملة من
الأساس، وكان لاذع اللسان لذيذ الحديث!
وآه لو نطقت الممرات داخل الكليات ومن حول أحواض
الزرع والنافورة، ونطقت «بنشات» المدرجات، خاصة فى الصفوف الأخيرة! آه لو نطقت
لأنها ستحكى أضعاف أضعاف ما يمكن أن يحكيه البشر.. ويبدو أنه من رحمة ربنا وستره
أن كان الجماد صامتا إلى حين!!.. أى إلى يوم أن يُستدعى للشهادة يوم الحساب.
نشرت في جريدة المصري
اليوم بتاريخ 28 يوليو 2015.
No comments:
Post a Comment