فرد الإنسان دون خلق الله بنوع من التوحش لا مثيل له، وهو
الافتراس المعنوى القاتل الذى قد يودى بحياة إنسان آخر أو يجلب عليه من البلاء
المرضى بما يحتم نهايته الحزينة!
إننا لا نصادف من الكواسر أسوداً ونموراً ودببة وذئابا وغيرها،
ولا من الجوارح نسورا وصقورا وحدآنا- جمع حدأة- وغيرها، مشاهد يظل فيها الكاسر أو
الجارح يضغط نفسيا وذهنيا على فريسته أو على غريمه أو على مصارعه حتى يجهز عليه
ويرديه قتيلا أو يتركه مريضا فاقدا لرشده.. إنما الكواسر والجوارح تمارس القتل من
أجل العيش وهو ما جبلت عليه بغريزتها.. تعيش بسلب حياة غيرها على عكس العواشب-
آكلات العشب- التى تعيش لتعطى حياتها لغيرها.. إنسانا وكاسرا وجارحا، وهو موضوع
كان قد اكتمل فى ذهنى بعدما كتب الأستاذ نيوتن ذات مرة عن الخراف فى العمل
السياسى، وقدم بعض الناصريين نموذجا وأجلت الكتابة فيه، لأننى كنت قد عاهدت نفسى
ألا أدخل سجالا حول مفاضلات بين المذاهب السياسية والاقتصادية، لأن هناك ما هو
أولى بالاهتمام.
عند الإنسان يسود هذا النوع من الافتراس المعنوى الذى هو شىء
آخر غير اغتيال الشخصية الذى يتحقق إذا عمد شخص أو جماعة أو جهة استهداف سمعة
ومسلك شخص ما وحياته الخاصة وأسرته وإلى آخره، وتشويهها والتركيز بالباطل معظم
الوقت على نقاط الضعف فيها لتضخيمها وصولا إلى ابتزازه أو إلى طرده من مجال العمل
العام أو النشاط الاقتصادى أو قطع الطريق عليه إذا كان مرشحا صالحا لموقع يمثل
خطرا على مغتالى شخصيته.
الافتراس المعنوى قد نراه فى برامج المناظرات السياسية أو
الفكرية أو حتى فى نقاشات الندوات والمؤتمرات، عندما يتصدى شخص متمكن ويمتلك صوتا
قويا ولسانا حادا وبديهة لاذعة، لشخص آخر خانته قدراته أو لم يذاكر موضوعه ويوفه
حقه من الدرس والاستيعاب، ولم يقصر فى دراسة ما يمكن أن يطرحه خصمه من نقاط وأفكار
وأطروحات ووضع الرد عليها وتفنيدها.. وعندئذ قد نفاجأ بأننا أمام مشهد أقرب ما
يكون للمصارعة الحرة أو الملاكمة الثقيلة وهناك لاعب يوجه القاضية لخصمه أو يلقيه
على كتفيه فلا يستطيع حراكا.
والعجيب أن هذا اللون من ألوان التوحش الإنسانى يرتبط بشهوة
ولذة لا مثيل لهما عند الإنسان، وربما لم يكن تجاوزا من الفلكلور أو التعبيرات
الشعبية عندما تصور هذا النوع من الانتصار الافتراسى- إذا جاز التعبير- كأنه
مضاجعة، وتُطلق عليه ألفاظ بالعامية تتطابق مع ما يطلق على اللقاء الجسدى بين
طرفين!! وهنا تكاد وأنت تتابع عملية الافتراس على الشاشة أو أمام الميكروفون فى
قاعة ندوة أو مؤتمر ترى المفترس وهو لامع العينين متحفزا طوال الوقت تتدفق الطاقة
فى وجهه «المزنهر» أو يتبدى التلذذ الهادئ البطىء على قسمات خلقته وكأنه يمزمز
مقبلات على مائدة، وكثيرا ما يصل السعى لذروة لذة الافتراس إلى الوقوف وربما توجيه
اللكمات أو الأكواب الموجودة على الطاولة!
ولا أنكر أن كاتب هذه السطور لم يفلت لمرات عديدة من هذا
النزوع الوحشى الافتراسى وكيف كانت الأفكار والردود تتدفق بسرعة يصعب قياسها مع
تحفز عصبى تغذيه لترات الأدرينالين المتدفقة فى كل الخلايا.. وأذكر مثلا مرات
ناظرت فيها المرحوم السفير صلاح بسيونى، سفير مصر السابق فى موسكو، أحد كبار منظرى
ومنفذى عملية كوبنهاجن مع لطفى الخولى وآخرين، وناظرت الدكتور محمود جامع حول
السادات وعبدالناصر وثورة يوليو، وناظرت الأستاذ على سالم حول قضية تحول المثقف من
موقف إلى موقف آخر ومن انتماء فكرى إلى انتماء مغاير، ثم لا أنسى مناظرة مع
الأستاذ أحمد عودة، المحامى الوفدى، حول ماذا تبقى من ثورة 23 يوليو!
وكلما استعدت فى ذهنى أو بإعادة مشاهدة شرائط وأسطوانات تلك
اللقاءات عاتبت نفسى على تلك الحدة وذلك السعى للإجهاز على الطرف الآخر إجهازا قد
يخلو من لياقة ومن رحمة!
أذكر أن المرحوم السفير صلاح بسيونى صافحنى بعد اللقاء وقال
إنه لم يتوقع عدوانيتى إلى هذا الحد، ثم لم ينكر أن الكفة مالت، ولذلك فهو يكافئنى
بعلبة سيجار كوهيبا كوبى فخيم.. وعدنا وأصبحنا صديقين قريبين لأنه كان يسكن تحت
النادى اليونانى بجاردن سيتى وأنا عضو فيه وكنا نلتقى ونتسامر إلى أن رحل بعد فترة
قصيرة، ولم يتورع أصدقاء السوء أن يتهمونى بأن تلك الحلقة كانت أحد أسباب رحيله!
أما الدكتور محمود جامع صديق أنور السادات، الذى أصبح صديقا
قريبا وأخا شديد الحنو على العبد لله، فقد صاح متهدجا بعد الحلقة: «شكوتك إلى
الله.. فقد أسأت لى أمام عشرين مليون مشاهد- كانت قناة الجزيرة- ولن يتركك الله
لتنام هادئا الليلة»، وإذا بالمذيع فيصل القاسم يصحح بأنهم سبعة وأربعون مليونا!
ثم كان الصديق الأستاذ على سالم الذى ما إن خرجنا سويا حتى
عزمنى على عشاء فى مركب كان يجلس فيه على شاطئ العجوزة، وصارحنى باختصار شديد «لقد
كنت قاسيا جدا على يا أبوحميد..» ثم أكمل عتابه بعبارة- معلومة شخصية- مزقت وجدانى
الذى مازالت فيه ندبة جراء ذلك رغم مضى سنين طويلة!
وتسألنى: وهل أصبحت مرتدعاً أو متعففاً عن هذا اللون من التوحش
الافتراسى أو الافتراس التوحشى الذى لا مثيل له حتى فى مملكة الكواسر والجوارح..
أسوداً.. ونسوراً.. وعقباناً؟ فأقول لك: الكدب خيبة، لأنه ما إن يأتى مثير لغريزة
هذا الافتراس حتى تستثار ويتم الافتراس.. ولا بأس بعدها من ندم.. وإشفاق على
الضحية.
نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 21
يوليو 2015.
No comments:
Post a Comment