ليس صحيحا أن الصراع السياسى فى مصر الآن محتدم مع جماعة
الإخوان الإرهابية وحدها، ولكنه يتسع لقوى أخرى قد يظنها البعض بعيدة عن حكاية«المرجعية الدينية» و«الإرهاب وحمل السلاح»، ولكنى أرى أن تلك
القوى من أكثر المتضررين من زوال حكم الإخوان، ومن تقلص انتشار أفكارهم، واتساع
وجودهم التنظيمى وتأثيرهم الجماهيري.. وأرى أيضا أن ما يحدث فى الإعلام بوجه عام
وفى القنوات الفضائية المملوكة لعينة محددة من رجال الأعمال على وجه خاص هو جزء من
الصراع المحتدم مع الجماعة الإرهابية! كيف؟.
أظن أن كل نشاط إنسانى وخاصة فى المجال الاقتصادى والسياسى
لابد له من غطاء أخلاقى يحميه ويكون سلاحا بيد أصحابه لمواجهة الخصوم ولكسب
الأنصار ولتحييد آخرين، كى لا يتحولوا لخصوم ولتزييف وعى آخرين أيضا حتى لا يكونوا
رصيدا للخصوم.. وقد وجدت الأنشطة الاقتصادية التى عرفتها مصر منذ بداية الانفتاح
الاقتصادى وسميت تجاوزا بالاتجاه للاقتصاد الحر.. وللرأسمالية وأيضا لليبرالية
السياسية، فيما هى لا رأسمالية ولا يحزنون، إذا طبقنا المعايير التى حكمت نشأة
وتطور الرأسمالية فى المجتمعات التى أخذت بها فى العصر الحديث، أى منذ قرنين ونصف
قرن من الزمان.
ولم يكن تزامن إطلاق دعوة الانفتاح الاقتصادى فى ظل حكم أنور
السادات وبداية ظهور تحالفات المال مع الحكم لدرجة المصاهرات الأسرية ــ ابن عثمان
وسليل آل عبد الغفار كزوجين لبنات رئيس الجمهورية ــ مع إطلاق العنان للجماعات
الدينية فى الجامعات وعقد المصالحة مع حركة الإخوان مجرد مصادفة طارئة، لأن مسار
مصر بعد ذلك وحتى نهاية حكم مبارك وتسلم الإخوان للقصر الرئاسى يؤكد أن المصادفة
لم تلعب أى دور مع أنها أحيانا يكون لها دور، ويؤكد أن مصر كانت بصدد تحالف له
أكثر من ضلع نظام حكم فقد شرعيته الاجتماعية التى جاء بناء عليها منذ بداية العصر
الجمهورى مطلع الخمسينيات، واتجاه سياسى يزعم أنه يمثل المرجعية الدينية
الإسلامية، وقوى مسيطرة فى النظام الدولى وأيضا المحيط الإقليمى لمصر، تريد تمكين
القوى المعبرة عن المرجعية الدينية لأسباب عديدة فى مقدمتها وجود الدولة العبرية
المستندة لمرجعية توراتية.. ثم رأس مال مصرى تم تكوينه فى معظمه من الفساد والنهب
المنظم لموارد البلد ولدرجة فاضحة كان حجم الأموال المهربة بالعملة الصعبة خارج
مصر يساوى ما تدفق على البلاد من معونات ومساعدات جاءت عقب انتصار أكتوبر 1973،
ناهيك عن دلالة أرقام الديون الخارجية وأرقام تلك المعونات، أى أننا أمام رباعى
فيه مؤسسة الرئاسة آنذاك والحكومة، وفيه ما يسمى بالرأسمالية المحلية وفيه الإخوان
ومن على شاكلتهم وفيه الطرف الخارجي.
وقد عشنا كلنا الأيام التى سيطر فيها رأس المال المحلى على
نظام الحكم ــ الرئاسة والبرلمان والوزارة ــ وتصاعد فيها الديالوج بين ذلك المال
وبين الإخوان الذين لم يتورعوا عن مباركة التوريث وعن إعلان كل ما يطمئن الرئيس ــ
مبارك، وأسرته وأركان حكمه، ولم يتورع المهيمنون على الحزب الوطنى عن إعطاء
الإخوان فرصة أن يكونوا القوة السياسية الأولى على الجانب الآخر. وما كان يجمع
هؤلاء وأولئك هو الاحتياج المتبادل، فالإخوان بفكرهم وحركتهم غطاء أخلاقى
لرأسمالية الحزب الوطنى وكل رجال الأعمال الذين لم يتردد بعضهم فى النبش فى أضابير
أسرته ليعلن اكتشافه أن الأسرة قديمة فى ولائها للإخوان، وفى المقابل يمثل النظام
ورأسماليته مجالا حيويا للنشاط الإخوانى الاقتصادى والسياسي.
الآن نجد الرأسمالية المحلية التى ليس لها أى سمة من سمات
الرأسماليات المحترمة فى المجتمعات العريقة فى رأسماليتها، نجدها وقد فقدت الغطاء
الأخلاقى الذى يبرر لها أرباحها وفحشها «تسعة أعشار الرزق فى التجارة».. «الدين لا
يحرم الربح ويحرم أى مساس بالملكية ورؤوس الأموال» وغيره الكثير، وفقدت أيضا
القدرة على كسر ذراع نظام الحكم أو ليّه وخاصة مؤسسة الرئاسة، وفقدت كذلك الدور
المساند بقوة من النظام الدولى وعلى رأسه الولايات المتحدة..، ولذلك نجد هذا
العزوف من تلك الرأسمالية عن المساهمة فى خطط التنمية وفى المشروعات الكبرى، ونجد
أيضا سعيها عبر ما تسيطر عليه من وسائل إعلام وإعلاميين وصحفيين سعيا دءوبا لبث ما
يزيف الوعى وما يصرف اهتمام الشعب عن قضاياه الكبرى المتصلة بوجوده العضوى وتكوينه
الاجتماعي، والتركيز على الجنس والعفاريت والشائعات والفضائح والسلبيات، وغيرها من
الأمور التى تجعل كل شيء سوادا فى سواد..
الآن نعيش معركة تكسير عظام بين ذلك النوع المنحط من
الرأسمالية وبين النظام بل والدولة، إذا قلنا إن سلاح تلك الرأسمالية موجه أيضا
للشعب الذى برهن على وعيه العميق بالمخاطر المحدقة بالوطن، ولذلك كان اندفاعه لتمويل
قناة السويس، واندفاعه من قبل لإسقاط الإخوان، ولانتخاب السيسى وللدستور..
وبرهن على وعيه أكثر وأكثر بتحفظه عن الاندفاع للانتخابات
البرلمانية، لأنه يدرك أنها المجال الوحيد المتبقى لكى يفرض رأس المال المنحط
هيمنته على التشريع وعلى البلد ككل.
إن الانحطاط الإعلامى أبرز وجوه التعبير عن الانحطاط
الرأسمالي، إذ لا يمكن «للفسيخ» أن يصير «شربات»، ولذلك أظن أن الأمر ليس معركة
بين الرئاسة أو رئيس الجمهورية وبين تلك الحالة من حالات الانحطاط، بل هو معركة
الأمة كلها ضد الإسفاف والابتذال وتزييف الوعى أيا كان مصدره، لأننى ممن يتساوى
عندهم إسفاف وابتذال من ينتقدون النظام ويصطادون فى المياه العكرة للرئيس
وللمسئولين مع انحطاط ورداءة وبشاعة المطبلاتية والزمارين، الذين عرفنا عنهم فى كل
المراحل أنهم على استعداد لسلخ جلود بطون أمهاتهم ليصنعوا منها طبولا يدقون عليها
لأى حاكم.
وهو ملف ينبغى أن نفتحه بلا تردد، لأن أولئك المطبلاتية أداة
فى يد رأسمالية تتذاكى لتقويض النظام عبر حرمانه من رؤية أخطائه لكى يتسارع
إسقاطه.. وهو الهدف نفسه على الناحيتين. وأعتقد أن الرأسمالية المحلية لن تتوقف عن
السعى لاستعادة الغطاء الأخلاقى بالمرجعية الدينية المصطنعة، لأنها لم ولن تستطيع
أن يكون لها غطاء أخلاقى مستمد من أفكار النهضة والاستنارة وأصول الحضارة والقانون
الطبيعى وقواعد العدالة، كما هو حال رأسمالية الغرب.
نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 5
نوفمبر 2015
لينك المقال:
http://www.ahram.org.eg/NewsQ/451991.aspx
No comments:
Post a Comment