برع الأولون فى المديح والهجاء والمراثى، وكانت الأخيرة باباً
قائماً بذاته فى الشعر والنثر، وكانوا فى الشعر يختمون المرثية بشطر بيت يتضمن
تاريخ وفاة المتوفى مكتوبا بالحروف، حيث كل حرف فى العربية له رقم يساويه.. ووصل
الأمر فى العصر الحديث والحقب المعاصرة، خاصة بعد إصدار الصحف، إلى تخصيص مساحات
للمراثى تحت اسم «النعى».. وهى مراثٍ لأنها تتجاوز فى الغالب الأعم ذكر اسم الفقيد
أو الفقيدة وعائلتيهما وعملهما وموعد تلقى العزاء، إلى ذكر المناقب الحميدة لهما،
بل وأحيانا مخاطبتهما خطابا مباشرا وكأنهما سيقرءان ما كتب.. أحيانا أخرى يجزم
الناعون بتحديد مآل متوفاهم، وعادة ما يكون المآل هو جنة النعيم مع النبيين
والصديقين والشهداء.. أو مع السيد المسيح له المجد والأربعة والعشرين قسيسا، الذين
هم فيما أعرف الاثنا عشر سبطا أولاد يعقوب والاثنا عشر تلميذا للمسيح.
وأدرك أن الصديق هشام محيى الدين ناظر ـ رحمة الله عليه ـ كان
لايرتاح للمديح ولا للنفاق ولا لشكليات المبالغة فى ذكر المناقب و غيرها.
كنت مستفزا عندما رأيته لأول مرة منذ سنوات، وكان الاستفزاز
طبيعيا لأنه استمرار لموقف اتخذته وآخرون تجاه السعودية، متأثرين بتراث سلبى ممتد،
وكنا نبرع فى تمتين أساس هذا التراث وتقوية جدرانه بالنبش فى كل ماض وحاضر لالتقاط
ما نريد! ومع الأيام استطاع السفير هشام محيى الدين ناظر، عبر الحوار المباشر،
والحوار ضمن الندوة الأسبوعية «الصالون أو المقعد» فى داره كسفير، بدأت أرى وأسمع
وأفهم وأتدبر بطريقة مغايرة شأن العلاقات المصرية – السعودية!
ومع الحوار بدأت ألتفت إلى ما هو كلى فى العلاقة بين النهر -
«النيل» - وبين البحر.. إذ عادة ما ينصرف الذهن مباشرة إلى أن البحر هو المتوسط..
ولا شيء غيره! ووجدت أن إهمال أو إسقاط البحر الأحمر من المعادلة هو خطأ بشع فى حق
الوطن، ناهيك عن أنه جهل عميق بالجغرافيا والتاريخ.. وفيهما ضمنا الحضارة والثقافة
والأبعاد الاستراتيجية، وتذكرت أن المصريين القدامى وفى أوجّ دورات القوة رأوا أن
الأمن المصرى يمتد من النهر إلى قرن الأرض وإلى منابع المياه المعكوسة، ومعلوم أن
قرن الأرض هو القرن الإفريقى حيث بلاد بونت، وأن تلك المنابع هى منابع دجلة
والفرات أى جبال طوروس، وهى مياه معكوسة لأنها عكس الاتجاه الذى يجرى فيه النيل!
وتذكرت أن معظم الخطر الذى أصاب المحروسة أو أحدق بها كان مقبلا من الشرق، أى
متصلا بالبحر الأحمر - الهكسوس - الفرس - التتار.. وغيرهم - بل إن الزلازل القوية
تأتى من فالق البحر الأحمر! ومثلما كان الخطر.. كان الخير الذى يصعب حصره فى هذه
المساحة.. لأننا قبل أن نتفاعل حضاريا مع الإغريق والرومان ليصير الهللينى
هللينستيا، تفاعلنا مع حضارات المنطقة التى يشكل البحر الأحمر جملة مفيدة فى مسارها،
بفارق جوهرى بين تفاعلنا المتوسطى وبين تفاعلنا المشرقي، هو أن المتوسطى اقترن
باحتلال الآخرين أرضنا وعدم قدرتهم على الاندماج فينا واندماجنا فيهم، بينما كان
تفاعلنا مع حضارات شبه الجزيرة العربية وحضارات بين النهرين وحضارات سوريا -
بالمعنى الجغرافى الواسع - تفاعلا متبادلا أثرنا فيه وتأثرنا، حتى قبل الغزو
العربى لمصر إبان الانطلاق الإسلامى شرقا وشمالا وغربا...- و«على الماشي» - فإن
البعض سيستغرب كلمة «الغزو العربي»، أن تصدر من عروبى قومي، وأؤكد أنها صحيحة لأن
معارك المسلمين الأوائل لنشر الدعوة فى شبه الجزيرة سميت «غزوات» دون أن يستنكر
أحد أن تكون بدر وأحد وتبوك والخندق وغيرها غزوات!
وفى مجلس أو «مقعد» هشام محيى الدين ناظر امتد الحوار إلى
مناطق، ظن كثيرون أنها من «المحرمات - التابوهات» التى لا يجوز التطرق إليها فى
حضور السفير السعودى وعلى أرضه، وأشهد أن الرجل اتسم بعقل منير وروح سمحة وأفق
متسع، فلم يحدث أن تم الحجر على أى وجهة نظر أو أى رأي، وكانت الحجة تقابل بالحجة،
والرأى يواجه بالرأى مع تذوق بديع للقفشة والنكتة والتعليق الساخر.
كان مجلس هشام ناظر يتسع أسبوعا بعد أسبوع، حتى اكتظ بالحضور،
وكان له جدول للمتحدثين فى مختلف القضايا التى شملت الأدب الشعبي، والتأثيرات
الحضارية بين مصر وبين الجزيرة العربية، وتاريخ وحاضر ومستقبل الممرات المائية،
وجراحات الأطفال من التوائم السيامية، وأدب نجيب محفوظ، وموضوعات أخرى كثيرة، ثم
سلسلة من المتحدثين عن تكوينهم وذكرياتهم، وكان منهم الأديب الراحل جمال الغيطاني،
والدكتور عبدالعزيز حجازى والدكتور يحيى الجمل، والمفكر الأستاذ سيد ياسين وغيرهم!
كنا إزاء دبلوماسية من نوع خاص، يمكن أن نسميها الدبلوماسية
الشعبية، أو الدبلوماسية الثقافية والمعرفية، وقد نجح الرجل نجاحا دفعنى لأن أقول
خلال الجلسة التى انعقدت لوداعه إثر خبر تركه موقعه إن مقياس نجاح أى دبلوماسى هو
قدرته على تحويل المواقف والآراء السلبية تجاه بلده إلى مواقف وآراء إيجابية..
وكنت أنا العينة التى قست عليها الظاهرة!
كانت تلك الحوارات وإعادة التفكير فيما ظننت أنه «ثوابت فكرية
وسياسية» أرضية ثابتة تمكن المرء من أن يمسك بالخريطة مجددا ويقرأها من زوايا
متعددة ليكتشف أن الأسافين التى دُقت بين كل من القاهرة والرياض، وبغداد، ودمشق فى
آونة متعددة كانت وستبقى تستهدف كل التكوين العربى الحضارى والثقافى والاستراتيجي،
وأيضا الاقتصادى والسياسى والاجتماعي، وأعتقد أن العينة بينة. فما جرى لبغداد
ولدمشق وما يتم السعى لتنفيذه فى القاهرة وفى الرياض أكبر دليل على صحة أن الثور
الأبيض أكل يوم أكل الثور الأسود، ولا بديل مهما تكن الظروف عن تماسك مصر مع
الجزيرة العربية بتكوينها الجغرافى السياسى الذى يضم دول مجلس التعاون الخليجى
واليمن، وبتكوينها الحضارى الممتد منذ ما قبل التاريخ.
إن ثمة قضايا قد لا يجوز طرحها للقراءة العامة، لأن فيها ما قد
لا يستوعبه البعض، ومنها قضية الارتباط العَقَدى السابق على الإسلام بين مصر وبين
الحجاز وامتداداته التى صارت تعرف باسم المملكة العربية السعودية، وكم هى مثيرة
وأخاذة تفاصيل ذلك الارتباط، وهذا أمر يؤكد أن محاولات الاصطياد فى أى مياه آسنة
أو عكرة، سواء على صعيد الماضى أو الحاضر بين البلدين، هى محاولات تهدم وتدمر
المستقبل الذى مهما تكن مراحله فإن أساسه غير المتغير هو العلاقة بين النهر وبين
البحر.. أى بين النيل والبحر الأحمر.. وأيضا الأبيض مع كل الاعتبارات التى ذكرتها
لحساب الأول.
نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 26
نوفمبر 2015
لينك المقال:
http://www.ahram.org.eg/NewsQ/456200.aspx
No comments:
Post a Comment