أظن أنه من حقوق
الإنسان أن يعيش حالة الوجد التي يريدها، سواء كانت في حضرة حبيب له أو حبيبة، أو
في حضرة معنى يسكن تكوينه الإنساني، حيث تتعدد المعاني بتعدد مفردات الوجود
البشري!.. وأظن أنه من حقوق الإنسان أيضًا أن ينقلب الوهم عنده إلى حقيقة، بمعنى
أنني كنت أشك كثيرًا ووفق التقارير الطبية والأشعات ومعها واقع الحال الذي يجعلني
أتنقل بين التمدد على الفراش وبين القرفصة على الكنبة لخلل في الفقرات الفوقية
والتحتانية – أشك - في أن أستطيع الصمود لأقل من ساعة في المشي والوقوف ضمن زحام
وتدافع لا يعرف أن الشاسيه الواقف أو الماشي، الذي هو العبد لله، شاسيه ضربته
"البارومة" منذ سنين!، ومع ذلك صمدت من الظهر إلى المغرب، وكانت حالة
الوجد التي ارتديت لها القفطان الكتان الأبيض، ومن تحته الصديري البلدي، ومن
فوقهما الجلابية الصوف ذات القياطين المخاطة باليد عند أبو جرجس الترزي البلدي في
قويسنا!
عند باب الفتوح ترجلت
وهاتفت صديقي التاريخي والجغرافي والاجتماعي سعيد فرماوي، الشاعر وعازف الناي
والفنان التشكيلي، الذي حصل على لقب فريد هو "جبرتي الديجتال"، حيث يسجل
على حاسوبه مئات ألوف الصور والمشاهد الثابتة والمتحركة في أرجاء المحروسة كلها
شمالًا وجنوبًا وشرقًا وغربًا.. وكانت المناسبة هي الليلة الكبيرة لمولد العارف
بالله سيدي علي البيومي ساكن الحسينية!
في طفولتي وصباي وشبابي
المبكر كنت أعرف أن لأسرتي نسبًا صوفيًا هو "البيومية"، ولم أهتم لفترة
طويلة بتقصي الأمر إلى أن كان ما كان الخميس الفائت!
هو علي بن حجازي
البيومي.. ولد ببلدة البيوم بالدقهلية سنة 11088 هجرية، ويمتد نسبه إلى الإمام
الحسن بن الإمام علي - رضي الله عنهما - ومن مؤلفاته: المربع في المذاهب الأربع..
وشرح الجامع الصغير.. وشرح السيرة الأحمدية ورسالة في الحدود، وثانية في الفوز
والانتباه، وثالثة في فتح الرحمن والأنوار الجلية والنور الساطع، وغيرها في
الطريقة الخلونية الدمرداشية، وفي شرح الأسماء الإدريسية!
كان سيدي علي البيومي
منتسبًا لطريق السيد أحمد البدوي، وكان يجتمع بمريديه في مسجد الظاهر ذي الأعمدة
الحجرية القوية، والعجيب أن العصاة من كبار المجرمين ومشايخ المناسر وقطاع الطرق
كانوا يذهبون إليه لابتزاز مريديه أولًا، ولكنهم وبغير سابق إنذار يتوبون أمامه
ويصيرون من المريدين له، وليصير بعضهم من السالكين الصالحين!.. وكان مولانا يربطهم
بسلاسل حديدية في أعمدة المسجد، وأحيانًا يحيط أعناقهم بالطوق الحديدي ويشدهم إلى
العامود وهم قابلون صاغرون يريدون التوبة.. وكان إذا ركب دابته متجهًا من الحسينية
إلى الجمالية، حيث المشهد الحسيني سار مريدوه، ومنهم تلك العينة من ورائه بالأسلحة
والعصي، وكانت تبدو عليه مهابة الملوك، حتى إذا وصل إلى ضريح سيدنا الحسين دخل إلى
الصحن وانخرط في الذكر حتى يصير كالوحش النافر وفي غاية القوة، فإذا انتهى وجلس
تراه في غاية الضعف، وذات مرة احتج بعض العلماء على حضوره وعلى مريديه، لأنهم
يثيرون الغبار في الصحن الحسيني وطالبوا بمنعه، ولكن الذي تصدى لهم كان الإمام عبد
الله الشبراوي الذي طالبهم بالتريث، وطلب من البيومي إلقاء درس عليهم فحدثهم في
شرح الأربعين النووية ليسلب ألبابهم ويجدون عنده ما ليس عندهم!
مشيت مع صديقي فرماوي
وصديقنا هشام التهامي إلى مسجد البيومي، وعدنا إلى باب الفتوح، فشارع المعز حتى
أهل الموكب المهيب.. موكب السادة البيومية بشاراتهم الحمراء وبيارقهم وراياتهم
وأناشيدهم وآلات الإيقاع الفخمة والمجاذيب الذائبين، فيما هم فيه ولا يمكن شرحه،
لأن لكل مجذوب ذوقًا وطريقًا!
شفت ما هو عند البعض -
خاصة السادة العقلانيين الاستراتيجيين أو السادة القرفانين من كل ما هو شعبي
شوارعجي - يعد تخلفًا وعلامة من علامات صعوبة بناء الدولة الحديثة!!.. وعند آخرين
- أنا منهم - هو الروح الشعبية السارية منذ سيدي أوزير أو أوزوريس إلى سيدي مار
مينا ومار جرجس إلى سيدي الدسوقي والبدوي والشاذلي والبيومي.. وعشرات من هؤلاء..
هي الروح التي تصالح فيها ذكر الله مع تذوق الإيقاع والتمايل عليه.. وتصالح فيها
كما هو مسجل على القوس المتوج لباب الفتوح رمز اليهودية مع رمز المسيحية مع رموز
تنسب للإسلام.. وهأنذا أطلب لمن لديه الرغبة والقدرة أن يذهب إلى بوابة الفتوح
ويقف أمام ضريح "الذوق"، الذي لم يخرج من مصر، ثم يتجه إلى المساحة
الخارجية أمام البوابة ويرفع بصره إلى العقد "الأرش"، ويشاهد الرموز
التي أتحدث عنها.
كان الناس بالآلاف هاشة
باشة كريمة توزع نفحات الشربات والتمور والحلوى على كل من يصادفهم.. والكل يردد
لفظ الجلالة بإخلاص شديد حتى كأنك في صرح يقدم أجمل الأصوات الأوبرالية!
شفت، وقلت إن المحروسة
ما زالت بخير.. وأصلها يتجلى وسيتجلى مهما كانت الموجة الإخوانية السلفية إياها
ناضبة العاطفة عديمة الوجدان!
نشرت
في جريدة المصري اليوم بتاريخ 5 أبريل 2017.
No comments:
Post a Comment