يكاد البعض أن يُفضل
الإصابة بالصمم والعمى حتى لا يسمع ولا يرى أية إشارة لأمر اسمه المقاومة، سواء ما
حدث ضد الاحتلال البريطاني أو ما جرى ضد العدوان الصهيوني واحتلال سيناء!
هذا البعض له جذور
تاريخية أو له أجداد هم من أسموا أنفسهم منذ عقود طويلة "أصحاب المصلحة
الحقيقية".. أي المصلحة من وجود الاحتلال البريطاني، ورفضوا أية مقاومة له
لأن له فوائد في نظرهم!.. أما الأحفاد فهم الذين يذوبون عشقًا في النموذج
الإسرائيلي، ويرون أنه لا بديل عن حتمية ليس فقط التعايش معه وغض البصر عن جرائمه
أيًا كانت، بل الذهاب إلى أبعد ما يمكن الذهاب إليه في الاستفادة منه!
ولذلك فإن الكتابة عن
المقاومة مجددًا وإعادة إنعاش الذاكرة الوطنية بالصفحات المجيدة، التي سطر حروفها
أبناء مصر، خاصة المقاومين المقاتلين الأفذاذ من خط القناة ومن سيناء، قد يبدو عند
الصم والعميان رطانة انقضى عهدها، و"حنجوري" لا لزوم له في زمن عفت
أيامه على أية أفكار ومعتقدات كانت توصف دومًا بثوابت الوطن.. وبأنها العزة
والكرامة!
أكتب عن رمز من رموز
المقاومة، هو الكابتن غزالي، وعن السويس المدينة الباسلة التي سبق وكتبت عنها منذ
أسابيع، مناشدًا السيد رئيس الجمهورية أن يليها اهتمامًا إضافيًا!
فمنذ عدة أيام رحل
الكابتن غزالي بعد معاناة مع المرض، لم يجد فيها العناية الكافية التي يستحقها
كمواطن، لم يتردد لحظة في أن يبذل لوطنه أقصى ما يمكنه، ولم يكن محمد أحمد غزالي
الشهير بالكابتن غزالي مجرد موهوب ينظم الكلمة الواعية المعبرة التي تحرك الوجدان
وتدعم الصمود، ولا مجرد مؤسس لفرقة فن شعبي تعزف السمسمية، وتردد الأغاني الشعبية
المحفزة للمقاومة والصمود، ولكنه قبل هذا وبعده جزء من ظاهرة تعرفها الأمم الحية، عندما
تمر باختبار القدرة على الاستجابة لتحديات كبرى في مقدمتها تحدي العدوان الخارجي
الواقع عليها، ويسعى لكسر إرادتها واحتلال وجدانها بعد اغتصاب ترابها وتدمير
قوتها!
هي الظاهرة التي تتوحد
فيها الإرادة الوطنية وتتلاشى مظاهر الأنانية والانهزامية والقبول بالعيش تحت
سنابك المعتدي أو المحتل، ومن ثم تتجلى كل القدرات المكنونة في الوجدان الوطني..
الكلمة.. واللحن.. واللوحة.. والرقصة وخدمة الأسر التي غاب عائلها وشبابها في
الجبهة واختراع سبل للمقاومة غير تقليدية، ثم حمل السلاح والإصرار على البقاء
والتوحد بالأرض.. ترابها وأسفلتها ومبانيها وشوارعها وحواريها وأزقتها وكنائسها
ومساجدها.. والتشبث بالفعل المقاوم حتى لو لم يوجد سوى "عضم ولادنا.. نلمه..
نلمه.. نسنه.. نسنه.. ونعمل منه مدافع وندافع ونجيب النصر هدية لمصر"!
وهي الظاهرة التي لا
تتنصل منها أية أمة محترمة، وتضعها في مكان القداسة من مسيرة تاريخها، لتستدعيها
عند اللزوم.. واللزوم هنا هو ليس فقط صد العدوان ومقاومة الاحتلال، وإنما هو أيضًا
إعادة بناء الأوطان على كل المستويات، حيث يكون مطلوبًا بشكل أكثر عمقًا سريان روح
العطاء والإيثار والتطوع ذي الروح الرسالية أثناء إعادة بناء الوطن ماديًا
ومعنويًا!
وهنا تأتي النقطة التي
أجدها مهمة، وهي أن صميم الجريمة التي يرتكبها من يسخرون ويرفضون حكاية المقاومة
الوطنية برمتها، يتمثل في حرمان الوطن من التكوين الوجداني المقاوم، الذي تتجلى
درجاته من نقطة أدنى هي تجاوز مجرد رفض السلوك غير السليم في الشارع، كإلقاء
القمامة ومخالفة قواعد السير وغيره، إلى عدم ارتكاب هذا السلوك ونهر من يرتكبه
والإبلاغ عنه للسلطات.. وتصل إلى نقاط أعلى قد تستعصي على الحصر، لأن كل مجال من
مجالات الحياة اليومية يحتمل وجود سلبيات تستحق المقاومة!
لقد جاءت أوقات عشناها
كلنا، خاصة الذين عاصروا حرب 1956 وحرب 19677 والاستنزاف وأكتوبر، كان حديث ومناخ
المقاومة جزءًا من ضميرنا الوطني العام.. وجاءت أوقات عشناها أيضًا علا فيها خطاب
سياسي وإعلامي عمد إلى تجاهل مراحل المقاومة وروحها، ثم انتقل إلى السخرية منها،
ثم وببجاحة منقطعة النظير حمّلها كل السلبيات، التي أحاطت بالوطن، وفي الوقت نفسه
عمد ذلك الخطاب إلى إعلاء شأن كل ما هو مضاد لذلك، حتى أصبحت الخيانة وجهة نظر
وحقًا من حقوق الإنسان!
لقد ظل الكابتن غزالي
رمزًا للفعل المقاوم المساند للفعل المقاتل، وبقيت السويس رمزًا للصمود والمقاومة،
ولكنها في زمن النخاسة الذي طال أمده دفعت الثمن، وتحتاج الآن كما سبق وكتبت في
هذه المساحة، لأن يرد إليها الاعتبار كجزء لا يتجزأ من رد الاعتبار للمسيرة
الوطنية العظيمة التي بدأت في العصر الحديث بمقاومة الحملة الفرنسية في القرن
الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر!
وفي جنة الخلد كل مقاوم
وكل مقاتل ضد العدوان وضد الاحتلال وضد الإرهاب.
نُشِرَتْ
في جريدة الأهرام بتاريخ 6 أبريل 2017.
No comments:
Post a Comment