كان مؤسس "المصري اليوم"
يهاتفني من كندا وسألته أين أنت وهل زرت كذا وكيت؟! وتواعدنا على رحلة قد ندبرها
معًا إلى هناك، وإلى أن يحدث ذلك دعوني أحكي بعضًا مما سبق ورأيت.. المسافة
بالكيلو متر من كيلونا إلى فانكوفر وكليهما في مقاطعة كولومبيا البريطانية بكندا
حوالي 390 كم.. ومن فانكوفر إلى مدينة تيخوانا المكسيكية القريبة من الحدود مع
الولايات المتحدة حوالي 2277 كم إذا مضينا في الطريق رقم 5 "دوغري"، دون
خروج منه إلى مناطق أخرى، والذي حدث أنني مع الصحبة من "آل حجازي" وآل
"هلابو" لم نتجه مباشرة، وإنما اتجهنا من كولومبيا البريطانية في كندا
إلى الحدود مع الولايات المتحدة، فولاية واشنطن ثم ولاية مونتانا، وبعدها أيداهو
ثم يوتا، وبعدها نيفادا ثم أريزونا إلى كاليفورنيا، ومن هناك للمكسيك، ثم كانت
العودة من المكسيك إلى كاليفورنيا، وبعدها أوريجون ثم واشنطن الولاية حتى عدنا إلى
حيث يقيم صهري جابر حجازي وأسرته في ضاحية تسمى الضفة الغربية West Bank
من ضواحي مدينة كيلوناKelowna الواقعة على بحيرة أوكانا جان Okanagan Lake
التي ترتبط بأسطورة عن وحش يسمى "أوجو بوجو"، وهو ما كان يسميه السكان
المحليون شيطان الماء، وقد وصف هذا الوحش بأن له زعانف وجسدًا يشبه الأفعى وذيلًا
كالحوت ورأسًا كالحصان.. ويحكى أن كثيرًا من الشهود الذين يذهب البعض إلى أنهم
موثوقون، ومنهم شخص يدعى "أندريه بانيت" رأوا الوحش وأن له عيونًا بحجم
فاكهة الجريب فروت!!، وقد وضعت لوحة معدنية داكنة اللون عند البحيرة مسجل عليها معلومات
عن هذه الأسطورة.
في تلك الرحلة التي استطالت لأكثر من
عشرين يومًا ذهابًا وإيابًا عشت مع آيات كتاب الله المفتوح، وكنت كلما فغرت فمي
مندهشًا مأخوذًا، وأحيانًا تسبقني دموعي رددت في سري همسًا: "ربنا ما خلقت
هذا باطلًا.. سبحانك فقنا عذاب النار"، وعندما دخلت في المسافة بين بدن شجرة
الصنوبر المعجزة وبين لحائها، ووقفت في الفجوة التي اتسعت لي، قرأت آيات من
الإنجيل ومن القرآن وعلا صوت نشيجي الذي غسلني من أعماقي.. حيث تكرر الأمر عند
الحائط الصخري الهائل المنقوش عليه رسوم ما قبل تاريخية فيها جعران يماثل جعارين مصر
القديمة وتنبثق منه خطوط إشعاعية في أحد الكانيونات canyonsأو الأودية الضيقة التي
طفت فيها.. ومنها "الكانيون الكبير" في أريزونا وأيضًا "برايس
كانيون".. و"زايون كانيون".. و"آرش كانيون".. و"ريف
كانيون" في مختلف الولايات التي مررنا بها في الرحلة.
في الغابة المحمية الطبيعية التي تحمل اسم
سيكويا Sequoia
بولاية كاليفورنيا شفت أشجارًا عملاقة عتيقة تجاوز عمر بعضها آلاف السنين، وكانت
الشجرة التي دخلت بين خشب جذعها وبين لحائها اسمها جنرال شيرمان General Sherman
ويقال إنها أقدم مخلوق حي على وجه الأرض، ويقدرون عمرها بين 2200 و2500 سنة.. ومن
السفح في سلسلة جبال سييرانيقادا إلى المحمية كان الطريق صاعدًا ملتويًا.. وما أن
تقترب من المكان حتى تشعر - إذا كان شعورك ما زال فيه بقية من رقة وصفاء - بأنك
عند مدخل معبد مقدس فالصمت رهيب تسمع صوته الذي يختفي أحيانًا عند علو صوت الريح
وحفيف الأغصان.. والحشائش لا تشعر بضآلتها وقصر قامتها وهي من حول تلك العمالقة،
لأن الاحترام المبذول لها لا يقل عمقًا عن احترام العمالقة، ومكتوب على أحواض
الحشائش: "من فضلك.. هذه الحشائش كائنات حية تتنفس.. فامنحها الفرصة
لتعيش"، يعني سيادتك لا تضع قدمك عليها!
ولأن المكان يفرض تقاليده على من يعرف
قدره، فإن الناس من حول الأشجار والأعشاب لا ينطقون إلا همسًا وبالإشارات.. وفي
سيكويا كانت هناك شجرة مسجاة بطولها على الأرض.. شاخت ووقعت وممنوع أن يرفعها أحد
أو أن يحولها إلى شبابيك وأبواب ونار.. ومن عجب أن الشجرة النائمة في أبديتها قطعت
أحد الممرات المسفلتة في المحمية، ولذلك حفروا نفقًا في جثمانها تمر منه السيارات،
ومع عوامل الطقس من حرارة ورطوبة، ومع تساقط بذور الأشجار المجاورة على لحاء
الشجرة النائمة نبتت الأشجار الوليدة من تلك البذور في جسدها، ولذلك سميت "Nurse"
التي تحتمل معنى المربية مع الممرضة!
في كندا والولايات المتحدة قد تصادف من
يتندر عليك ضاحكًا إذا سمعك تحكي عن رحلتك من القاهرة للإسكندرية مثلًا، وكيف أنك
توقفت في الرست أو في ماستر لترتاح وتبل ريقك وتسد جزءًا من جوعك، لأن المسافات
هناك مخيفة، خاصة إذا تصادف وكان الطقس شتاءً أو قبيل الشتاء أو في منطقتك
أعاصير.. ولذلك كان يكفي ألا أجد إجابة عن أسئلتي الاستفهامية الاستنكارية وأنا
أتساءل: أين الناس؟! لأننا كنا نسير ألفًا من الكيلو مترات في حزام القمح، فلا نرى
سوى الرشاشات العملاقة الممتدة بارتفاعاتها مئات الأمتار وسط حقول القمح.. ولا أحد
من البشر.. وفي أحزمة الفواكه الحال نفسها!
وكانت الوديان الضيقة
"الكانيونات" نموذجًا لقدرة عوامل التعرية على ترويض الصخور بتشكيلها
ولا أجدع وأمهر نحات.. ففي كانيون الأقواس تتوالى التشكيلات المنحوتة على هيئة
قوس، وبعضها مكتمل الاستدارة في عقده الأعلى والآخر يميل إلى الاستطالة وهلم جرا..
أما المفاجأة فكانت الكانيون الذي بدا وكأنه تجمع سكاني من المساخيط التي تحولت من
بشر إلى حجر.. إذ تنظر فتجده تشكيلًا عملاقًا لرجل وامرأة وطفلين يمشون متجاورين!
أو تجده امرأة فارعة.. وأحيانًا كائنًا
بشريًا يركب دابة.. وعندئذ لا بد أن يقفز التراث المشرقي في ذهنك عن الذين عصوا
ربهم فقلبهم تماثيل من ملح أو من حجر ناري، أو آخر رسوبي.. ولا أكذب إذا قلت إنني
حتى هذه اللحظة وبعد سنين استطالت من زيارتي لذلك المتحف الرهيب أفكر بأنه لمَ لا
يكون ما رأيته وعانيته وتأملته هو فعلًا كائنات حية سخطت لحجارة؟!.. واستأذنكم أن
استكمل في مرة مقبلة.
نشرت في جريدة
المصري اليوم بتاريخ 22 نوفمبر 2017.
No comments:
Post a Comment