Wednesday, 15 November 2017

أولوية التناقضات




لن أكتب هذه المرة أسماء من أعتقد أن لهم صلة قوية بمضمون هذا المقال، لا لشيء إلا لأن بعضهم له مكانة إنسانية طيبة عندي، حيث المشترك بيننا من أجل مصر مساحته معقولة ومن الخسارة تبديدها.. ولأن بعضهم الآخر لا ينتج فكرًا ولا رؤية بقدر ما تبدو حالته تجسيدًا لما أسميته من قبل المتلازمة syndrome المرضية، التي تصيب ذلك البعض، وتبدو أعراضها أكثر حدة وقسوة في مواسم معينة، ولذا فهم معذورون، ولو من باب أنه ليس على المريض حرج، حتى إن استبد به الهذيان، ومن ثم فليس من الإنسانية ولا الفروسية التصدي لمريض أضناه المرض!

وما ستتضمنه هذه السطور سبق وكتبت فيه منذ زمن، وهو متصل بحلقات أو دورات تاريخ الأمم والشعوب، وكيف أنها حلقات متصلة يضمها سياق واحد اسمه حركة التاريخ، أو أنها دورات مترابطة لكل دورة ملامحها ومضامينها المحكومة نسبيا بالحتميات الجغرافية من طبيعية وبشرية وسياسية واقتصادية!

ثم إنه ليس من المعقول منطقيا وعلميا أن نجعل من تاريخ مصر القديم الممتد من عصور سحيقة إلى أن بدأ التسجيل بالكتابة منذ حوالي ستة آلاف سنة؛ تاريخًا لقيطًا وعقيمًا.. يعني بدأ بغير نسب لتفاعلات من نوع أو آخر مع المحيط المكاني الذي تتوسطه المحروسة، وانقضى بغير آثار أو جينات انتقلت منه إلى ما لحقه من حلقات أو تراكم بعده من دورات.. وفي اعتقادي أن اللقط والعقم لا يصنعان شعبًا وتاريخًا كشعب مصر وتاريخها.. إضافة إلى أن الاعتداد بالتاريخ الوطني وفهمه واستيعاب دروسه عبر حلقاته ودوراته أمر مختلف تمامًا عن الشوفينية أو التعصب الأعمى ضيق الأفق الذي ينظر للآخرين نظرة تعالٍ وتمييز، ويزعم الشوفيني عادة أنه سليل عنصر متميز عن كل البشر!

ولقد حدث وهجمت القبائل التي اصطلح على وصفها بالمتبربرين- وليس البربر-حيث المتبربر هو الهمجي الوحشي القاتل على الإمبراطورية الرومانية، وظلت موجات من القوط والواندال والماجيار والجرمان والهون تهاجم الإمبراطورية الرومانية حتى سقطت روما والإمبراطورية في سبتمبر 476 ميلادية، واعتقد المواطنون الرومان أنها نهاية العالم وأن القيامة قامت! وحدث أيضًا أن المنطقة التي تضم فرنسا وبلجيكا وأجزاء من ألمانيا تقع غرب نهر الراين كانت تسمى بلاد الغال الرومانية، وفي نهاية القرن الخامس الميلادي اندفعت قبائل الجرمان- خاصة قبيلة الفرانكس، وهي جزء من الجرمان- إلى بلاد الغال، وكان يقود الهجوم كلوفيس الأول، الذي غيّر اسم الغال إلى فرنسا، أي على اسم قبيلته، وغيّر اللغة والمذهب الديني، حيث كان ينتشر المذهب الأريوسي المصري المسيحي، بعد أن ترجم القديس أولفيلا الإنجيل وفق الرؤية الأريوسية، وحوّلها كلوفيس إلى الكاثوليكية.. ومن سلالة هؤلاء الغزاة المتبربرين جاءت الأسرتان الكارولنجية والميروفنجية، وجاء شارلمان العظيم الذي غيّر التاريخ السياسي لأوروبا عندما انتزع التاج الإمبراطوري من يد البابا وتوج نفسه بنفسه، منهيًا عصرًا بأكمله كان البابا هو الذي يتوج الإمبراطور، أي أن الولاية للأول على الثاني! ولا أتخيل أن معتوهًا مصابًا الشوفينية- الغالية نسبة إلى بلاد الغال- يجلس على شاشة فضائية فرنسية الآن أو على مقهى في الحي اللاتيني أو في ندوة، ويقرر شطب تاريخ فرنسا منذ غزو الفرنجة لها، وأن يظل يتكلم عن أمجاد القوط الشرقيين ومن قبلهم الرومان ومن قبلهم.. من كانوا قبلهم بدعوى إنصاف تاريخ بلاده!

إن الشعوب الحية، والمفكرين المحترمين يتعاملون مع تاريخ أوطانهم باعتباره حلقات ودورات متصلة، ويفهمون الظواهر وفق ما حكمها من ظروف مكانية وزمانية وإنسانية وليس وفق هواهم وما يظنونه أنه هو وحده الصحيح!

نعم، لقد علّم المصريون القدماء البشرية عبر عصور الأسرات الفلسفة والطب والرياضيات والهندسة، أي مجمل ما تحتويه "الحكمة" من فروع، ولن يضير مصر ولا تاريخها ولا ضميرها أن نقول إنها استفادت من الحقب الإغريقية الرومانية Greco roman، ولا من دخول المسيحية والحقب المسيحية، وهلم جرا إلى محمد علي ومن بعد أسرته الحكم الوطني الذي أسسه الجيش المصري العظيم.

أريد أن أقول لصديقي الطبيب العاشق لتاريخ مصر القديم: حنانيك، لا تجبر آخرين على خوض جدال ليس هذا وقته، وهناك من التناقضات مع الإرهاب ومع كل مدعي المرجعية الدينية ما يجعل التناقض مع يوليو وعبد الناصر تناقضا ثانويا يمكن تأجيله.
                            

نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 15 نوفمبر 2017.

No comments:

Post a Comment