هذه مقدمة لابد منها في
نظري، وهي أن الإرهاب الرهيب في سيناء وغيرها من مواليد نظام حسني مبارك، حيث
تحالف الاستبداد مع الفساد مع رأس المال الزائف المستغل مع القبول بالإخوان وفكرهم
كغطاء أخلاقي لتلك المنظومة، وما أداه ذلك من انهيار وانحطاط ثقافي.. إذ من
المستحيل أن يتمكن الذين يفعلون ما يفعلونه بإمكانيات خطيرة ووجود بشري ودعم مادي
وتسليحي يكاد لا ينفد بغير أن تكون لهم أقدام ومرتكزات ثابتة وقديمة في المكان
والزمان.. وربما ليست صدفة أن تحتل أخبار وتقارير الوضع في سيناء بعد مجزرة
الروضة، وإلى جوارها خبر عن موقف سويسري غير مفهوم وغير مبرر وغير صحيح من استرداد
مصر لأموالها التي نهبها نظام مبارك، ممثلًا فيمن وردت أسماؤهم نصًا في الصحف، وهم
كما نشرت المصري اليوم والشروق: "حسني مبارك وسوزان ثابت وعلاء وجمال مبارك
وهايدي راسخ وأحمد عز وخديجة أحمد كامل ياسين، وعلاء محمد فوزي علي سلامة وشاهيناز
النجار، وأحمد أحمد عز وزهير جرانة ومحمد إبراهيم سليمان وحبيب العادلي ومجدي
راسخ" - طالع المصري اليوم عدد الاثنين 27 نوفمبر، وكذلك الشروق في اليوم
نفسه - وكأنما يريد القدر أن يذكرنا بالعلاقة العضوية بين الفساد وبين الإرهاب،
وكأنما يريد أيضًا أن يخزق عيون ويقطع ألسن من التقطوا أنفاسهم من خدم ذلك النظام،
الذين ظنوا أنهم عادوا وأن مجرد ظهور صورهم وأسمائهم ونشر كلامهم هو شهادة البراءة
للنظام كله، ولو كان هؤلاء وأولئك لديهم ذرة وطنية وبقايا من حمرة الخجل لبادروا
هم من أنفسهم وردوا الأموال المنهوبة المودعة عند الخواجات، ولو من باب مساندة
ثورة يونيو، التي أعادت لمصر وجهها الصحيح، ومازالت تواجه وبقوة ضراوة ما تركه
نظام مبارك من تركة وخيمة الرداءة بكل المعايير.
ثم إنني أذهب إلى حتمية
أن نقبض على جرحنا النازف، وأن ننتقل من مرحلة الألم والصراخ التي يريد عدونا أن
نستمر فيها ليتشفى في وطننا وفينا، إلى مرحلة التدبر والتدبير والعمل بكل قوة
وقسوة لمواجهة جذرية شاملة للإرهاب فكرًا وتمويلًا وتخطيطًا وتواطؤًا، وعلى ذلك
فليس من الوارد الخلط بين حالين أو بين أمرين، أولهما أمر البؤر الإرهابية المسلحة
والكامنة التي اتخذت من تكفير الأمة كلها منهجًا واتبعت أصولًا فكرية وفقهية تكرس
التحريم عمال على بطال، وتؤصل للقتل بدون تمييز، وللدمار بغير نظر في العواقب، وهو
ما يقتضي الاجتثاث بلا هوادة أو رحمة مهما كان الثمن، لأننا في أحوال أخرى أقل
أهمية بقياس الآثار والخسائر، إذا أصيبت مزرعة دواجن أو ماشية مثلًا بمرض وبائي
يسكن أرضية المكان وجدرانه وأوانيه وغيرها، فإنه لا بديل عن التخلص من القطيع كله،
وإغلاق المكان وتطهيره بالمبيدات، وأحيانًا بالجير الحي الذي ينتج عنه طاقة حرارية
هائلة تقضي على أية كائنات ولو كانت دقيقة ميكروسكوبية.
كما أننا في إصابات
الحدائق المثمرة والغابات لا نجد طريقة لإنقاذ المناطق السليمة إلا باجتثاث
الأشجار المريضة وحرق الأجزاء المصابة إصابة واضحة، وفرم الباقي ليصير نشارة!..
فما البال عندئذ بوباء يحمل الرشاشات والقنابل وصواريخ "الآر بي جي"،
ويعتقد في الطلعات الانتحارية، ولا يردعه أي رادع إنساني أو فكري أو فقهي أو عقيدي
عن أن يدمر دور العبادة والمدارس والمنازل والمقار الحكومية العامة، وأن يقتل
الخلق أطفالًا وصبيانًا وشبابًا ورجالًا وكهولًا وشيوخًا ونساءً بغير أدنى تردد
ولا رحمة.
أما الأمر الثاني، فهو
أمر الواقع الاجتماعي والثقافي الذي يحتوي على ما يجعله مهيأ لانتقال عدوى
الاستعداد لحمل جينات الإرهاب وممارسته، وهي جينات لها تركيبة واضحة ومحددة منها
أولًا التدين الشكلي الذي تحول بمضامين الإسلام والإيمان إلى مجرد طقوس شكلية
كالجلباب القصير واللحى المرسلة دونما تهذيب، والشوارب الحليقة، والنقاب،
والمبالغة في الحجاب، وغياب فهم غايات العبادات ومقاصد الشريعة، ومنها ثانيًا
الجهل المركب الذي يتجاوز الأمية الهجائية إلى الأمية الثقافية والسياسية
والاجتماعية، ومن ثم الاستعداد لمشاعية كراهية الآخر المختلف دينيًا والمختلف
مذهبيًا والوصول بالكراهية لحد تمزيق الجسد الوطني من جانب وسرطنة خلايا أخرى لا
تستمر إلا بتدمير والتهام بقايا الخلايا السليمة، ومنها ثالثًا غياب مفاهيم
وتطبيقات الانتماء للوطن وللضمير الجمعي السليم، والوقوع في ضلال العصف بكل
الضوابط الثقافية الاجتماعية في السلوك الفردي، ولدى بعض الفئات التي تقتصر على
اتخاذ معيار الحلال والحرام وحده لقياس مدى جواز مسلكها، ولا تلتفت لمعيار القانون
ومعيار الصحيح والخاطئ "الصح والغلط".. ولذلك تم تدمير أهم أعمدة
البنيان الاجتماعي السليم، وأقصد به عمود العدل الاجتماعي، ومعه التكافل
المجتمعي.. فالمستغل الذي يخالف قواعد وقوانين تنظيم المباني في الارتفاعات
والمساحات والمواصفات يتخذ من الحلال والحرام معيارًا بصرف النظر عن القانون
والأخلاق، وغالبًا ما يكون من أصحاب التدين الشكلي، وهو لا يفكر في أثر جريمته على
كل المجتمع.. وهلم جرا، وخصوصًا العدل الاجتماعي والتكافل المجتمعي، لأنه يبالغ في
الثمن ويشتط في الشروط فلا يجد الشباب سبيلًا لمسكن لائق ولا لحياة مستقرة!
وهذا الأمر الثاني
نواجهه بالطرق التي تبارى كثيرون في تحديد معالمها الفكرية والثقافية والسياسية..
وفي ظني واعتقادي أن هذه المواجهة تكون ضئيلة الأثر طالما ماسورة التدين الشكلي
السلفي تضخ نفاياتها في المجتمع، فتحدث تأثيرًا بالغًا في تلويث العقل الذي هو
مرشح للتنوير والتحديث!
الخلاصة أنه لابد من
ضربة غاشمة للإرهاب المسلح، أي ضربة لا تبقي ولا تذر، وترد الظلم بما هو أشد منه
وأقوى، حيث الأصل في اللغة للغاشم والغشوم هو من "غشم الحاطب"، وهو أن
يحتطب جامع الحطب ليلًا فيقطع كل ما قدر عليه بلا نظر ولا فكر وقد قيل:
وقلت تجهز فاغشم الناس
سائلًا
كما يغشم الشجراء
بالليل حاطب
نشرت
في جريدة الأهرام بتاريخ 30 نوفمبر 2017.
No comments:
Post a Comment