Thursday, 23 November 2017

كبر مقتًا عند الله..




وصل المهتمون بصحة الإنسان إلى تحديد النسبة المقبولة بين عدد الأطباء وعدد السكان، أي كم ممارس عام وكم أخصائي وكم استشاري، ووصل مهتمون آخرون بعقل الإنسان إلى تحديد النسبة المقبولة بين عدد المدرسين وبين عدد الطلاب، سواء في الفصل الواحد خلال مراحل التعليم العام أو المدرجات و"السكاشن" والمعامل في التعليم الجامعي!

وهكذا الحال في الإرشاد الزراعي، كم مشرف أو مهندس لكم فدان.. وفي المخابز كم مخبز لكم ألف نسمة.. ثم مجالات أخرى عديدة إلا مجالًا واحدًا هو الجانب الروحي والعقيدي لدى البشر، إذ لم يحدثنا أحد عن كم مسجد أو كنيسة لكم ألف نسمة.. ومن ثم كم خادم مسجد وكم مقيم شعائر وكم إمام وخطيب ومن علاهم في السلم الوظيفي.. وأيضًا على الجانب الآخر كم شماسًا وكم راهبًا وكم قسًا وكم قمصًا وكم أسقفًا ومطرانًا؟!!.. ومن ثم كم خريجًا يلزم للوفاء بهذه العملية من الحاصلين على الثانوية الأزهرية، ومن خريجي كليات أصول الدين والشريعة والدعوة واللغة العربية، وكليات الدراسات الإسلامية، وكليات الدراسات اللاهوتية.. والأديرة!!

ولقد حاولت قبل أن أكتب هذه السطور عبر أصدقائي وزملائي الصحفيين المتخصصين في الشؤون الإسلامية ومتابعة أخبار الأزهر والأوقاف أن أعرف بدقة عدد خريجي الكليات الأزهرية والمعاهد المتصلة بالدعوة والعمل في دور العبادة سنويًا، لكي أعرف كم خريجًا تدفق إلى سوق العمل في العشر أو العشرين سنة الفائتة، فلم أتمكن إلا من معرفة أعداد تقريبية قدرها من أمدني بالمعلومة بحوالي مائة وستين ألف خريج من تلك الكليات في السنين العشر المنصرمة!

احتلني السؤال وانشغلت بالإجابة، لأن سؤالًا أكبر يعصف بي وبكثيرين ممن قد يصدق فيهم قول القائل: في فمي ماء وهل ينطق من في فيه ماء؟!!، والسؤال هو هل يمكن عقلًا أو نقلًا وبكل المعايير لبلد يعاني اقتصاديًا مثلما نعانيه أن يفتح الباب بلا حدود لمئات الآلاف من شبابه ورجاله وكهوله كي يكون عملهم هو إقامة شعائر وأداء طقوس وفقط، ثم يكون من تلك الآلاف عدد يسير هو من يستطيع أن يتصدر مجالس العلم من تفسير وحديث وفقه وأصول، وبعدها يكون العدد أكثر ندرة فيمن يستطيعون إعمال العقل وبذل الجهد وإفراغ الوسع لاستنباط الأحكام الفقهية من مظانها الأصلية.. أي يستطيعون الفتوى بشكل ومضمون سليمين؟!

لا أريد أن أفصل في المستوى غير المقبول - حتى لا أستخدم أوصافًا غير مهذبة - للآلاف ممن يحملون شهادات جامعية من كليات أخرى كالآداب والحقوق والاقتصاد والتجارة وغيرها، لأنه إذا كان واردًا أن نتغاضى عن الأمية الهجائية والثقافية والدينية لدى هذا النوع من المتعلمين، فإنه ليس واردًا على الإطلاق أن نقبل الأمية المركبة نفسها ممن يحملون على عاتقهم التصدي لفهم وتذليل فهم المعجزة الكبرى في اللغة والمعاني، أي القرآن الكريم، وأيضًا يتحملون عبء الارتباط الوثيق بين علوم اللغة وبين بقية فروع هذا التخصص في تفسير وحديث أو أصول وفقه!!

وما أود أن أفصل فيه هو متى يمكن أن نقف جميعًا وقفة ترضي ضمائرنا، ويرضى عنها خالقنا لحسم مسألة هذا السيل المتدفق من خريجين لا يحتاجهم البلد بحال من الأحوال؟.. بل هم في أغلب الأحيان بطالة حقيقية أو مقنعة أو موسمية!!

لقد حدث في مجتمعات أخرى خلال مراحل انقضت، وكانت العصور الوسطى نموذجًا لها أن امتلأت الأرجاء بالرهبان ورجال الأكليروس، واعتمدت البابوية الأوروبية في العصور الوسطى على ذلك أثناء الصراع بين البابا وبين الإمبراطور على من له الولاية على المجتمع، وهو صراع طويل ودامٍ، تحفل بتفاصيله مصادر ومراجع العصور الوسطى الأوروبية، وكان الثمن الذي دفعته تلك المجتمعات لتنظيم هذا الأمر وإصلاح ذلك الخلل ثمنًا فادحًا، لأن الحروب الصليبية كانت وجهًا من وجوه الظاهرة، بينما كان الشرق الإسلامي لا يعرف مثل هذه الظاهرة، إذ لم نسمع ولم نقرأ عن ألوف من المتعلمين أو الرجال المسلمين عامة تفرغوا للحكاية، وإنما كان الأصل هو أن يكون للمرء صنعة وعمل يكسب منه رزقه.. وكان الاتجاه للتفقه والتخصص فيه والوصول إلى مرحلة الاجتهاد وتأسيس المذاهب، مقترنًا بوجود صنعة أو ضيعة للرجل.. والضيعة في اللغة هي صنعة الرجل وعمله، والمثال الأقرب لذلك هو أن كبار الكبار من الصحابة كان لهم عمل من تجارة أو غيرها، وأن نموذجًا كالفقيه الفذ الإمام أبي حنيفة كان تاجرًا للقماش، بل إن المعصوم عليه الصلاة والسلام كان له عمل، وهو من علمنا أن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده.. يعني بالبلدي لم يكن هناك من يبني جسدًا متينًا مزينًا بمعدة بارزة، ويكون عمله هو الذهاب كل جمعة لإلقاء خطبة منبرية لا يبذل فيها جهدًا عقليًا متميزًا وإمامة صلاة ظهر الجمعة.. وأحيانًا إمامة بعض الفروض وإلقاء درس بين حين وآخر.. ويتسلم راتبًا ومكافآت وحوافز، وربما حظًا معتبرًا من صندوق نذور!

نعم.. وبالفم الملآن هناك احتياج لعلماء متخصصين في الدعوة وخبراء في فروع التفسير والحديث والأصول والفقه وغيرها، ومسلحين بمعارف أخرى في التاريخ والاجتماع والاتصال وعلم النفس الاجتماعي، وغيرها من العلوم المتصلة بحياة الجموع.. بل دعونا نستدعي ما عايشه بعضنا في أوروبا مثلًا، وقد عايشته مع من عايشوه، عندما يقف رجل الدين في الكنيسة ليشرح دروسًا في الموسيقى الكلاسيكية وخصائص الآلات الموسيقية، ويستمع الناس لكورس الكنيسة وللآلات الموسيقية بعد إقامة القداس!.. ورجال دين آخرون متخصصون في علوم أخرى بالغة الأهمية.. ولماذا نذهب بعيدًا وقد كان عندنا نموذج فذ كالأب جورج شحاتة قنواتي رئيس دير الآباء الدومنيكان بالقاهرة، الذي كان صيدلانيًا وعالمًا في الأعشاب الطبية، وفيلسوفًا وأديبًا وله عشرات المؤلفات في ابن رشد وغيره!، وبقيت المكتبة التي كونها في الدير من أعظم وأهم المكتبات في مصر بل وفي العالم!

لا بد أن نحدد النسبة العملية المقبولة بين عدد القائمين على شأن الدعوة الإسلامية، وما يتصل بها من مؤسسات وبين عدد الناس، وأن تنتهي حكاية الإمضاء في دفتر الحضور والانصراف دون حضور أو انصراف، لأنه لا يوجد عمل.. لأنه "كبر مقتًا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون".
                               

نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 23 نوفمبر 2017.

No comments:

Post a Comment