Thursday, 25 February 2016

جهازنا المناعي.. الإصابة القاتلة


إحتفالات الموالد في مصر


الحديث متصل حول ما يعتقد كاتب هذه السطور أنه إصابات مباشرة ومؤثرة في الجهاز المناعي الوطني المصري، مما مكن لسرطان الإرهاب الذي نشرته قوى التطرف والتعصب والجهل باسم الدين.

وقد رصدت في مقالات سابقة أربع إصابات منها ما أسميته الطامة الكبرى، لأنها إصابة ضربت العقل المصري وسماته الحضارية والثقافية في الصميم، واليوم أستكمل فأقول إن ما قيل دوما عن أن الهدم أسهل من البناء يبدو أمرا صحيحا، لأن ما راكمه العقل والوجدان المصريان في مئات القرون مدماكا فوق مدماك وطوبة بجوار طوبة وكان الملاط "المونة" بين المداميك وبين اللبنات "الطوب"، هو خلطة شديدة القوة تكاملت فيها وامتزجت عناصر ومقومات الوجود المصري، ابتداء من العلاقة بين الوادي والدلتا وبين الصحراء، ثم بين النهر وبين البحر وأيضا بين تراث مصر القديمة منذ عصر ما قبل الأسرات مرورا بالأسرات من الأولى إلى الدولة الحديثة في مصر القديمة، وبعدها التفاعل مع الوافد باستيعابه وهضمه وإدخاله ضمن النسيج الثقافي، حتى وإن كان غازيا ومحتلا!

وحتى لا يزداد التعقيد فإنني سأضرب أمثلة لم أمل من تكرارها، منها ما أسميه الضفائر المصرية "جمع ضفيرة" لأنها لم تكن صدفة في نظري أن الذين برعوا في ضفيرة خوص النخيل وليفه وجعلوا من فنونها إنتاجا مميزا في "سعفة عيد القيامة وعيد شم النسيم" وفي الأوعية كالمقاطف والقفف وفي الحبال، برعوا كذلك في تضفير مفردات ثقافتهم الدينية والشعبية والأسطورية.

وأظن أن هواة الذهاب إلى الموالد الشعبية ــ مسيحية وإسلامية ــ وأنا من هؤلاء الهواة شبه المنتظمين، يستمتعون بالخلطة الساحرة بين الإنشاد الصوفي الإسلامي وبين الإنشاد المسيحي لدرجة الانتشاء باللحن والإيقاع والكلمات!

ثم هناك تضفيرة إيزيس مع أم النور العذراء وأم هاشم الطاهرة، وتضفيرة الخمسة وخميسة، وتضفيرة الخضر وماري جرجس، وتضفيرة آل البيت وأقطاب الغوث الأربعة مع الأربعة وعشرين قسيسا، وغيرها، ولكل تضفيرة تفاصيل مبهرة بعضها كان من نفحات أصابت العبد لله، وبعضها الآخر موجود بالتراكم الوجداني الشعبي، وأعتذر مسبقا لكل من سيجد في السطور طلاسم غير مفهومة له، مع أنني أدعي أنها من صميم صميم جوهر تراثنا الثقافي المصري.

وحتى الأمثال الشعبية ومعها الحكم الشعبية "جمع حكمة" بل حتى تراث الحواة والمنشدين الشعبيين، اتسم في مصر بخصوصية جبارة فيها العمق والتسامح والصلابة، وأيضا الجدعنة، ولم يخل من منافذ وثغرات للإفلات عند هجوم الطوفان ولو إلى حين!

ثم فجأة تُظلم سماء العقل والوجدان وكأن شيطانا رهيبا خيم بأطرافه الأخطبوطية لتتلاشى منظومة قيم راكمناها عبر مئات القرون!

فجأة يُستبدل بطهر إيزيس والعدرا وأم هاشم دنس المرأة وكيف أن كل ما فيها عورة ولا تستحق سوى أن يتم إخفاؤها واعتبارها مصدرا للفتنة والشرور!

وفجأة تتفكك الضفائر التي جدلناها حضاريا وثقافيا، لتشتعل الحرب ضد التراث المصري القديم، وتصبح الآثار والمتون والإبداعات أصناما وشركا وكفرا! ويتسع ميدان الحرب لتوجه السهام المسمومة وتستل الخناجر لاغتيال مصر القبطية المسيحية، ويظل الميدان يتسع لتشن الغارات على كل ما هو عقلاني وكل ما هو وجداني إذا قيل إنه لا يطابق ما يراه الذين نصبوا من أنفسهم ومن زناخة تكوينهم أوصياء على الجميع!

وحتى الوطن والوطنية بل ومصر ذاتها صارت أمورا لا قيمة لها، لدرجة أن واحدا اسمه محمد عاكف كان مرشدا للإرهاب قال بأعلى صوته: "طظ في مصر واللي في مصر"!

إنه شيطان أخطبوطي ينفث رياح سموم مهلكة هزت مصر من "ساسها لراسها" وصرنا أمام منظومة مغايرة في كل شيء، وهذا في اعتقادي أخطر ما ضرب الوطن في صميم جهاز مناعته!

إن من السهل أو من الصعب ــ ولكنه في النهاية ممكن ــ أن نبني المصانع والمعامل وأن نستصلح الصحراء وأن نروض النهر ونواجه البحر، وأن نعوض ما فرطنا فيه في الإنتاج والاختراع والاكتشاف، ولكن الصعب بلا حدود هو أن نعيد بناء منظومات الحضارة والثقافة التي راكمناها، كما أسلفت، منذ عصر ما قبل الأسرات المصرية القديمة أي منذ أكثر من سبعة آلاف سنة!

وسأعود ثانية لضرب الأمثلة ومنها مثال الحرب السلفية والإخوانية والجهادية المعلنة ضد الموالد والأضرحة وكل التراث الشعبي في هذا المضمار، وقد نجحت إلى حد كبير، وكيف تؤدي من فورها إلى تجفيف المنبع الذي طالما وعبر مئات القرون تدفق منه تراث الإنشاد الشعبي لرموز الإله قبل الأديان السماوية، كآمون ورع وآتون وجب ونوت وغيرهم، ثم للرموز التي ارتبطت بالأديان السماوية خاصة المسيحية والإسلام كالعذراء ومار جرجس ومار مينا وغيرهم، وكآل بيت النبي وأقطاب الغوث الأربعة الرفاعي والجيلاني والبدوي والدسوقي ومن جاء بعدهم من أعلام كالشاذلي والقنائي وأبي العباس وعشرات غيرهم...

ومع الإنشاد كان يتدفق فن القراءات في الكتاب المقدس وما يتصل بها من قداسات، ثم قراءة القرآن الكريم، وقد نبغت المدرسة المصرية وتميزت وتناسل منها مصطفى إسماعيل وعبد الباسط والبنا والمنشاوي والطبلاوي، ومن قبلهم رفعت والصيفي وصبح والمنجد والفشني وعلي محمود وعبد الحكم ومئات آخرون.. وكل هؤلاء كانوا من فيض الموالد الشعبية والاحتفالات الدينية والصلوات، ولكم ولنا وللجميع أن نتخيل نضوب هذا المنبع جراء الإلحاح من عديمي الذوق ناضبي الوجدان منعدمي العاطفة، الذين يظنون أن الدين لابد أن يكون جافا غليظا دمويا لينزل الرعب في قلوب مخالفيه، ويتردد الأذان بصوت أجش قبيح يصرخ بدلا من الأذان السلطاني البديع بصوت علي محمود أو رفعت أو طه الفشني.

الأمثلة كثيرة ومضنية، وهذا الذي ضرب النخاع المصري هو تتمة الطامة الكبرى، ولله الأمر من قبل ومن بعد.


 نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 25 فبراير 2016

No comments:

Post a Comment