Thursday, 11 February 2016

جهازنا المناعي.. الإصابة الثالثة



الموالد في مصر

كتبت عن مقدمات الإصابة بسرطان الإخوان والسلفيين، وعن تمكنه من جسد مصر وعقلها، ثم عطفت على الإصابات التي أصابت جهاز المناعة الوطني المصري، ما سمح للسرطان بأن يتمكن، ورصدت إصابة أولى هي الازدواج في النظام التعليمي بعد عجز محاولات إصلاح وتطوير الأزهر في مرحلتي محمد علي وجمال عبد الناصر، ثم إصابة ثانية ممثلة في قطع اتصال السياق التاريخي المصري؛ فصار خطوطا بيانية قزمية متجاورة بدلا عن أن يكون خطا بيانيا واحدا متصلا له صعود وهبوط، مما يحقق التراكم ويكفل التغيير.

واليوم أشير إلى إصابة ثالثة أصابت جهاز المناعة الوطني المصري، وهي ما أسميه في كتاباتي "الترحيلة النفطية".. أي هجرة ملايين المصريين هجرة موقوتة لسنوات محددة، أو هجرة طويلة بالبقاء هناك والتردد على مصر، حيث يترك الكثيرون أسرهم في الوطن، سواء كان السفر موقوتا أو طويلا!

ولم تكن هجرة المصريين مصادفة أو مفاجأة، لأنها بدأت قديما نسبيا، بسفر مهنيين كالمدرسين والأطباء والمهندسين للبلاد العربية، خاصة في شبه الجزيرة، أي دول مجلس التعاون الخليجي الان واليمن، ثم اتسعت المساحة لتضم العراق والسودان وأيضا سوريا، وكانت الخزانة المصرية هي التي تدفع الرواتب أو فروق الرواتب.. وترسل أيضا معونات عينية كمستلزمات الدراسة من كراسات وكتب وأقلام وحتى الأستيكات أو "المحايات"..

ثم جرى ما جرى إلى أن هبطت عنقاء الانفتاح الاقتصادي على المحروسة قبيل النصف الأول من السبعينيات، حيث كانت حرب أكتوبر سبباً في ارتفاع أسعار النفط ومن ثم عوائده، وبعد انتهائها خرج مئات الألوف من الشباب الذي بقي في الخنادق منذ 1967 إلى ما بعد الانتصار، ليبحث عن عائد النصر الذي تحقق بدمائهم وأرواحهم وعرقهم وعلمهم، ليفاجأ بأن عائد النصر التهمته حيتان الانفتاح وبدأت مأساة العصف بالفئات الاجتماعية الدنيا والوسطى، فارتفعت أسعار الأراضي ومواد البناء وأبرم العقد بين أطراف المافيا المصرية والإقليمية والدولية...

بين السلطة التنفيذية والتشريعية آنذاك ورأس الدولة أنور السادات وبين حيتان القطاع الخاص وقططه السمان الذين ملأت أسماؤهم الأسماع آنذاك، وبين أطراف إقليمية كان لها ثأر مع نظام يوليو 1952، وأطراف دولية كان لها الثأر نفسه مضافا اليه حرصها على إعادة ترتيب المنطقة للحيلولة دون ميلاد ناصر جديد من جانب ولكي تبقى الدولة العبرية هي القوة العظمى في المنطقة، وحملت الحقبة اسما يناسبها تماما هو حقبة "الكاش" و"الكاشيزم"...

 فلوس هائلة تدفقت من المساعدات والمعونات والقروض ومن عرق المصريين، ونهبت وهربت للخارج، وأنشئ بجزء مهم منها حائط خرساني ممتد من شواطئ سيناء شرقا إلى مطروح غربا، وتحولت مدخرات الوطن المكونة من عرق وجهد أبنائه من ترحيلتهم النفطية إلى شقق وشاليهات لا يسكنونها الا شهرا أو اقل في السنة، وذهبت عشرات المليارات من العملة الصعبة في الحمامات والمطابخ والمباني...

وانتعشت بالتالي صناعات من نوع خاص لا تؤسس لأي نهضة صناعية بالمفهوم السليم.. هي صناعات السيراميك والأدوات الصحية والموكيت وخلافه من السلع الاستهلاكية، وحلت المكيفات محل المشربيات والشيش الخشب لأن الواجهات صارت زجاجا عريضا وألمونيوم لتتحول البيوت إلى صوبات حرارية مقفلة تتكاثر فيها الجراثيم وتفتقد أي دفء إنساني وأسري!

ولقد كانت الطامة الكبرى التي ضربت الوجدان ثم ضربت عقول المصريين.. هي انتشار عقيدة الخلاص الفردي بأي طريقة وبفلسفة "الغاية تبرر الوسيلة" أيا كانت تلك الغاية مخالفة للقوانين والأعراف وقواعد الأخلاق وتعاليم الدين.

وتحول الناس إلى آلات لجمع المال وأدوات للاقتناء وكائنات تدمن الاستهلاك بكل أنواعه عادية وترفيه وفاحشة الترف لدرجة الفجر! وصارت المنابزات تجرى علنا وضمنا وبالحق وبالباطل وبالواقع والتهيؤات حول عناوين الشقق ومساحتها والشاليهات وصفوفها والدهب والألماظ والسفريات والهدوم "السينييه" وخلافه.

وانطلق عفريت الاقتناء والفشخرة من قمقمه ليفتك بما كان في وعاء الوعي المصري وكانت سبيكته خليطا صلبا من الوطنية والرشد السلوكي والسمو القيمي، ومنه أن قيمة الإنسان تكمن في عمله وإنتاجه وعلمه وثقافته وقوة إرادته وحرية وطنه.

هي إذن فلسفة ومنهج الخلاص الفردي الذي أرسته سياسة الانفتاح وكرسته الترحيلة النفطية التي ساهمت في تدمير الطبقة الوسطى المصرية وقتلت فيها وعيها وبترت قدمها الساعية للتقدم، لتتضخم قدمها الأخرى الغاطسة في وحل التخلف، إذ يقال إن "البرجوازية" لها قدم تسعى للأمام وقدم تستميت في الارتداد!

ومع تلك الفلسفة التي تجلت في منظومة قيم معوقة للتنمية والتقدم كانت المصيبة التي يجوز وصفها بكل ألفاظ وصيغ المبالغة، وهي مصيبة التبعية الثقافية من المصريين للغالب اقتصاديا، وهو المجتمع النفطي.

كانت مصر غالبة ذات أزمان متعاقبة وهذه ليست شوفينية أو تعصباً ضيق الأفق لوطننا لكنها الحقيقة التاريخية، مثلما هي حقيقة تاريخية أن المسيحية جاءت لمصر من فلسطين ببلاد الشام، وأن الإسلام جاءها من شبه الجزيرة العربية، وأن استخدام أدوات ري متطورة أكثر من "الشادوف" جاءها من الإغريق والرومان كالطنبور والساقية.. وهلم جرا.

كانت مصر ولمدى قرون تبث قوتها الناعمة في كل المجالات، حتى فيما جاء اليها من الخارج، إذ تمثلته ونسجت منه نسيجا جديدا، مثلما نسجت مذهب الطبيعة الواحدة الإلهية في المسيحية، ونسجت المدرسة الوسطية في الإسلام، ناهيك عن مساهماتها الجدلية مع الفلسفة الاغريقية والثقافة الرومانية.

وكان لمصر سطوتها الحربية التي لم تعتنق عقيدة قتالية تبادر بالعدوان وغزو الآخرين لكنها للدفاع والتأمين، حتى إذا تباعدت المسافات وكانت لها قوتها الاقتصادية التي عرفها كل من حولها عندما كانت تغدق بغير حساب وحينما سميت النقود "بالمصاري" نسبة إلى مصر!

كانت مصر ولآماد متصلة مركز إشعاع في الترانيم والألحان الكنسية وفي الإنشاد والتواشيح الصوفية، وفي قراءة القرآن الكريم وعلم القراءات، ثم حدث ولا حرج عن الطرب والغناء، وعن الرقص الشعبي والرقص البلدي، وعن التلحين، وعن النكت والقفشات والقافية وخفة الظل والريادة في الحياة النيابية وفي إنشاء الجامعة ومراكز البحث وعشرات المجالات التي تجل عن الحصر...

ولأن دوام الحال من المحال ولابد لعوامل هبوط الخط البياني أن تفعل فعلها مثلما هي عوامل الصعود، سرى على المحروسة ما سرى على غيرها من مجتمعات كان بعضها هو الأول في المقدمة لأزمان طويلة، ثم اضمحلت وأصاب الانحطاط ظروفها.

وللحديث عن التبعية الثقافية التي أصابت جهاز المناعة الوطني المصري صلة.


 نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 11 فبراير 2016

No comments:

Post a Comment