الجامعة و"الكانتو"

يغفل البعض عمدًا أو جهلاً عن حتمية الصراع بين الأضداد والمتناقضات كضرورة لا مفر منها من أجل التغيير والتقدم، وأن هذا الصراع لا يمكن أن يقتصر على المعارك الكلامية مهما كانت أهمية الكلام مكتوبا أو منطوقا، ومتضمنا كل ما ورد في قواميس وشروحات الديمقراطية ومناوأة السلطوية التحكمية البوليسية أو الشمولية الفاشية والنازية!! بل إن الأمر الحاسم هو التكامل بين الوعي بأهمية التغيير ووضوح جوانب الحاضر والمستقبل وبين التغيير الفعلي في جوانب النشاط الإنساني الإنتاجي، زراعة وصناعة وتجارة وخلافه.

ولذلك فالعجب وارد بل وواجب تجاه من يعبرون عن غضبهم الشديد لوجود اتجاهات وأشخاص بذاتهم في البرلمان وفي الإعلام وفي الحكومة ممن ينتمون فعليا أو عاطفيا أو ذهنيا لمنظومة الفساد والاستبداد والجهل والتبعية.

إن الطبيعي هو وجود الأضداد والمتناقضات ليتم التدافع الذي يعصم الأرض من الفساد، والأرض تنصرف هنا إلى الأوطان وما فيها من مجتمعات.

صورة من صور الصراع الذي نحياه الآن هي ما يجري في الجامعة وفي قطاع التجارة والصناعة، وقد ربطت بينهما لأنني وجدت أن مضمون الأمر واحد في الجهتين.

لأن العملية التعليمية عندما تتحول في الجامعة إلى لون من ألوان تجارة نصف الجملة والقطاعي وتكون البضاعة رديئة مغشوشة، وبالتالي مضرة للمستهلك ومستنزفة لموارده المحدودة، ومن ثم مدمرة للبضاعة الجيدة السليمة الخاضعة لمعايير المنشأ والجودة، وعليه يصيب التدمير الوطن كله عندما تكون الجامعة كذلك، فحالها متطابق مع ما يحدث في السوق، حيث تنتشر السلع الرديئة المغشوشة مجهولة المنشأ غير الخاضعة لمعايير الجودة!

المعركة يجسدها النموذج الحادث بين قيادة جامعة القاهرة، يمثلها العالم الجليل جابر نصار أستاذ القانون والمهتم بالشأن العام وبين بعض الأساتذة الذين يروجون المذكرات والمختصرات والدروس الخصوصية، ويمثل الطلاب وأهلهم الطرف الثالث، وهو ما يماثل نموذج البنك المركزي ووزارة الصناعة والتجارة في جانب، وتجار السلع إياها على الجانب الآخر ويمثل الجمهور الطرف الثالث!

في الجامعة ومنذ عقود طويلة تفشت حكاية المذكرات والملخصات، وأذكر واقعة من الوارد أن أحكيها كنت طرفا فيها لما كنت رئيسا لاتحاد طلاب كلية الآداب جامعة عين شمس سنة 1970 وسعيت مع زملائي في مجلس الاتحاد، ومع بعض الأساتذة الأجلاء لأن نواجه ارتفاع أسعار المذكرات وشبكة المصالح المرتبطة بها، وتبدأ من الأستاذ أو المدرس والمعيدين وصاحب الكشك المنصوب في أطراف الحرم الجامعي، الذي تحول من صاحب نشاط متواضع إلى غول يسعى أعضاء هيئة التدريس إلى مخاطبة وده، ثم مجموعة من السعاة أو الفراشين يمثلون قسم التوزيع والتحصيل.

آنذاك كان السيد وجيه أباظة محافظا للقاهرة، ومن خلال اجتماعات التنظيم الطليعي أو طليعة الاشتراكيين طرحنا المشكلة فوافق على تخصيص حصة ورق و"استنسل" لاتحاد طلاب الكلية، وتبرع ببعض الآلات الكاتبة وماكينة طباعة استنسل، وساهم الطلاب الذين يجيدون الكتابة على الآلات الكاتبة في كتابة وطباعة المذكرات التي تطوع بعض الأساتذة بتسليمها لنا لبيعها بسعر التكلفة، وقد كان...

وبدأنا بمذكرة الدكتور محمود رجب ــــــ رحمه الله ـــــ وتوالت المذكرات، الأمر الذي ضج منه صاحب كشك بيع المذكرات، وكانت المذكرة التي يبيعها صاحبنا بتسعين قرشا تباع مثيلتها حجما بثلاثين قرشا في اتحاد الطلبة، واحتدمت "الخناقة" ــ أقل من المعركة قليلا ــ حيث انضم بعض الأساتذة لصاحب الكشك وعلا صوت أحدهم عن "الواد بتاع الاتحاد اللي عايزنا نجوع ويخرب بيوتنا"!!

وجاءت أحداث مايو 1971 لينتهي كل شيء بعد إزاحة وجيه أباظة وحل التنظيم الطليعي!!

وعلى الجانب الآخر كان هناك أساتذة يدفعوننا دفعا للاطلاع، وأذكر أستاذي الدكتور سيد مصطفى سالم وإسحق تادرس عبيد، اللذين كانا يحفزاننا على النزول لمكتبة الكلية والاطلاع على المراجع بها، ثم حفزانا على المناقشات المفتوحة أثناء المحاضرات، وكان ذلك من وراء اهتمامي وغيري بتعميق ثقافتنا في التخصصين اللذين كان أستاذانا يدرسانهما: تاريخ مصر الحديث والمعاصر، وتاريخ العصور الوسطى والكنيسة!

هي معركة ممتدة في العملية التعليمية الجامعية، ولا تنفصل فيها جوانبها عن بعضها كالنسبة والتناسب بين أعداد الطلاب في المدرجات و"السكاشن" وبين أعداد هيئة التدريس، وأيضًا مدى وفاء مكتبة الكلية والجامعة باحتياجات الطلاب في مرحلتي الليسانس أو البكالوريوس، والدراسات العليا، ثم طبيعة العلاقة بين أعضاء هيئة التدريس وإدارة الكلية والجامعة وبين هؤلاء وبين الطلاب مع عدم إغفال الهرم الإداري من قمته، أي أمين عام الجامعة نزولا إلى الموظفين والعمال.

لقد سادت القيم الاستهلاكية الرديئة وثقافة الوجبات السريعة في العملية التعليمية، وهنا أذكر تجربتي أيضًا عندما شاء حظي الطيب أن أدرس برنامجًا دراسيًا لطلاب جامعة هليوبوليس عن الحضارة المصرية، إذ كنت أسهب في تفاصيل ما قدمته مصر للإنسانية عبر حقب تاريخها، قديمًا ووسيطًا وحديثًا، وبعد عدة محاضرات كان السؤال الملح من الطلاب: "أين المذكرة؟.. من أين سنذاكر هذه المعلومات؟"، وقلت لا توجد مذكرة ولكني سأهديكم عددًا من نسخ كتاب "فجر الضمير" لجيمس هنري برستد.. وبالفعل اشتريت كمية بسعر رخيص من مطبوعات مكتبة الأسرة وأهديتها لمكتبة الجامعة، وقلت إن الامتحان سيكون من كتاب "فجر الضمير"!

إنني لا أنكر أن المعادلة شديدة الصعوبة في الجامعة المصرية شأنها شأن بقية جوانب الحياة في وطننا جراء تراكم الأخطاء في مرحلة، ثم الخطايا في مرحلة تالية، ثم الجرائم في مرحلة تلت عليها، وفي ذلك تفصيلات تجل عن الحصر.

وكما أن المعادلة لا تتجزأ فإن العلاج لا يتجزأ هو الآخر، لأن الانتصار في مواجهة ثقافة "التيك آواي" والوجبات السريعة في الجامعة لا ينفصل عن الانتصار في مواجهة ثقافة السلع الرديئة المغشوشة مجهولة المصدر عديمة الجودة في الأسواق.. ولو احتج المحتجون بضياع ملايين العمال.. ومئات ألوف الطلاب، لأن الضياع الحقيقي هو التعليم المزيف المغشوش، وهو السوق المنفلتة المعبأة بالرداءة وزبالة الإنتاج العالمي.

 نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 2 فبراير 2016