خشيت أن أتأخر في الكتابة لـ"المصري
اليوم" لانشغالي خلال الاثنين والثلاثاء - وهما أقصى موعد للكتابة - فآثرت
التبكير رغم مخاطره، وأهمها أن يبدو المقال هائماً في فضاء بعيد عن واقع يوم النشر
أو اليومين السابقين عليه، لذا فرض "الحب" نفسه، إذ أكتب مساء الأحد الفائت..
ذلك أن الحب عندي هو أكسير الحياة، وأزعم أنني قرأت فيه وكتبت وأنني عشته وأعيشه
وعانيت من "اقترافي" له، وإن جاز لي أن أختار مجدداً لما اخترت غير
مسيرتي معه! حتى مع ما جرى أحياناً عندما ظن البعض أن فيه مقتلي السياسي على وجه
التحديد.
وبينما كنت أراجع ما سبق وقرأته فيما هو بعيد عن
الرابع عشر من فبراير وعن "فالنتين"، وجدتني مشدودا إلى معرفة أمر لا
أظن أن كثيرين من مشربي الفكري والثقافي ومن المشابهين لنا فكروا فيه... وأعني به
معرفة رأي ابن تيمية في الحب والعشق، لأنني عرفت كثيراً عن مكانة المرأة وحبها في
تراثنا بشقيه الديني والأدبي، ومن الديني عندي التراث الصوفي البديع.
واتجهت لفتاوى ابن تيمية، وفي ذهني ما سمعته من
واحد من أبرز أتباعه في مصر، وهو ياسر برهامي، ومعه من على شاكلته من غلاة
المتسلفين عن المرأة، وكيف أن ذلك البرهامي أفتى لمن سأله عن المعاملة الصحيحة من
مسلم لزوجته المسيحية، وكانت الإجابة هي أن يبغضها ويشعرها كل لحظة ببغضه لها!
وسأله السائل: وكيف أمارس معها حياتي الزوجية؟ فأجاب ذلك البرهامي بسؤال تقريري
استنكاري استفهامي معا: "إذا ضاجع رجل امرأة يغتصبها، ألا يستمتع؟! اعتبر
نفسك ــ موجها كلامه للزوج ــ بتغتصبها"!
وعندما ذهبت للأصل، وهو ابن تيمية، وجدت عنده
كلاما أو فتاوى في مجموع الفتاوى عن الحب والعشق، يهمني أن أثبته، ففي الفتوى التي
تحمل رقم 129/10: "والعشق مرض نفساني.. وإذا قوي أثر في البدن، فصار مرضا في
الجسم، إما من أمراض الدماغ، ولهذا قيل فيه هو مرض وسواس، وإما من أمراض البدن
كالضعف والنحول وما إلى ذلك".
وفي الفتوى رقم 185/10: "الرجل إذا تعلق
قلبه بامرأة - ولو كانت مباحة له - يبقى قلبه أسيرا لها، تحكم فيه وتتصرف بما
تريد، وهو في الظاهر سيدها لأنه زوجها، وفي الحقيقة هو أسيرها ومملوكها، لاسيما
إذا درت بفقره إليها وعشقه لها، فإنها حينئذ تحكم فيه بحكم السيد القاهر الظالم في
عبده المقهور الذي لا يستطيع الخلاص منه، بل أعظم.. فإن أسر القلب أعظم من أسر
البدن، واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن"!
أما الفتوى رقم 135/10 ففيها: "إذا كان
القلب محباً لله وحده مخلصاً له الدين لم يبتل بحب غيره أصلاً، فضلاً عن أن يبتلى
بالعشق.. وحيث ابتلي بالعشق فلنقص محبته لله وحده، ولهذا لما كان يوسف محبا لله
مخلصا له الدين لم يبتل بذلك.. أما امرأة العزيز فكانت مشركة هي وقومها فلهذا
ابتليت بالعشق"!
إلى هنا فهذا ملخص موقف ابن تيمية إمام
المتسلفين المعاصرين، وأصل بلائنا في ديننا ودنيانا، وقبل أن أناقش بعض الأمور
عنده، تعالوا نرى الجانب الآخر المضيء في تراثنا عند محيي الدين بن عربي، في كتابه
الفريد "فصوص الحكم". ففي "فص حكمة فردية في كلمة محمدية نجد حديثا
عن مكانة المرأة في سياق الإنسانية مجتمعا، وفي سياق علاقة الإنسان بربه سبحانه
وتعالى.. ويقول ابن عربي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنه عليه السلام أدل
دليل على ربه، فإنه أوتي جوامع الكلم التي هي مسميات آدم:.... لذلك قال عليه
السلام في باب المحبة التي هي أصل الموجودات "حبب إليّ من دنياكم ثلاث"
بما فيه من التثليث، ثم ذكر النساء والطيب وجعلت قرة عينه في الصلاة، فابتدأ بذكر
النساء وأخر الصلاة، وذلك لأن المرأة جزء من الرجل في أصل ظهور عينها ومعرفة
الإنسان بنفسه مقدمة على معرفته بربه، فإن معرفته بربه نتيجة عن معرفته بنفسه،
لذلك قال عليه السلام: "من عرف نفسه عرف ربه"، ثم يستكمل ابن عربي:
"فإنما حبب إليه ــ أي الرسول عليه السلام ــ النساء، فحن إليهن لأنه من باب
حنين الكل إلى جزئه".
نحن إذن أمام أطروحات متعددة في تراثنا، أطروحة
تضع المرأة وحبها وعشقها موضع الخطيئة والجريمة حتى إن كانت زوجة أحلها الله،
وأطروحة تذهب إلى أن اكتمال عبودية الإنسان لله متوقف على حبه للمرأة وحنينه
إليها!
بل إن ابن تيمية وهو يتكلم عن مشهد يوسف النبي -
عليه السلام - وامرأة العزيز فإنه لم يلتفت وهو يحكم بأنها مشركة هي وقومها إلى
أنها اعترفت، وكان اعترافها هو مصدر تبرئة يوسف والإفراج عنه من سجنه، ولذلك تواتر
أنها ستدخل الجنة!
ونحن أيضا إزاء فئة ضمر وجدانها وغلظت مشاعرها
أو قل تلاشت فأضحت بلا مشاعر بل إنها تجرم وتخطئ من تأججت مشاعره تجاه زوجته،
فعندئذ يكون التساؤل المشروع: هل فاقد الشيء يعطيه؟! بمعنى أن من صار جفاف العاطفة
فلسفته وصارت القسوة والغلظة وسائله، فإنه لا يمكن أن يحب وطنه ولا مجتمعه، فما
بالك أن يعشق الوطنية ويقدس الإنسانية!
ثم إن ابن تيمية اختط خطاً عجيباً يفصل فيه بين
حب الله وبين حب المرأة، حتى إن كانت زوجة الإنسان، وهو أمر ينسحب بالتالي على أي
حب، وكأن إرضاء الله والإخلاص في طاعته وحبه يتنافى مع أن يكون البشر إنسانا يحب
ويعشق ويتفانى في خدمة حبيبه ومعشوقه!
ولذلك فإن الذين لا يدركون كارثة تفشي أفكار
ومناهج تسلف ابن تيمية وأشباهه في نسيجنا الفكري والثقافي والمجتمعي؛ ضالعون في
تدمير المجتمع وبث منظومات الكراهية والعنف فيه.. وعلى ذلك فإن المعركة ليست سهلة
سواء في تجديد مضامين الخطاب الدعوي "الديني" أو في تطوير المنظومة
الثقافية التي تسرب إليها هذا العقم الإنساني المقيت.
وكل عيد حب وكلنا نحب وسعداء ومتفانون في
محبوبنا.. وطننا.. ومجتمعنا ونسائنا وأسرنا.
نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 16 فبراير 2016
No comments:
Post a Comment