Tuesday, 9 February 2016

اغتيال الوطن



كان الزمن هو النصف الأول من الخمسينيات، وكنا قد تبعنا الجمال "الإبل" إلى جسر البحر، أي شاطئ فرع رشيد.. حفاة كنا على الأرجح وبعضنا يرتدي جلابية والآخر بيجاما، وكلاهما لا يخلو من بقع واضحة، هي آثار وضع "القُرَص" ــ قاف مضمومة وراء مفتوحة ــ المعجونة باللبن والسمن في جيوبنا.

والطريق من جناج قريتنا إلى الجسر طويل نسبياً، أي حوالي كيلو ونصف الكيلومتر، لأننا نصل أولاً إلى الطريق الترابي العريض الذي تمر عليه العربات من كل نوع آنذاك "الكاميون" أي النقل، والكارو، والأتوبيسات التي حملت اسم "كافوري" وأيضاً "الشركة"، ثم نعبر قنطرة تعلو ترعة "القضابة" التي تتفرع من النيل عند كفر الزيات باسم الباجورية، وتحمل اسم القضابة بعد ذلك لمرورها على قرية بالاسم نفسه، وأشهر عائلاتها عائلة "حتاتة"، لنمر بعدها بين بيوت قرية صغيرة تطل على فرع رشيد مباشرة، هي قرية "كفر الدوار"، التي يميزونها عن كفر الدوار الكبرى التي فيها مصانع الغزل والنسيج بالقرب من الإسكندرية بأن الأولى كفر الدوار غربية والثانية كفر الدوار بحيرة، ومن أبناء كفر الدوار غربية المعروفين الزميل أحمد المسلماني!

على جسر البحر تبرك الجمال لينزل من على ظهورها أكياس القطن، وتعود محملة بالطمي النيلي الناعم شديد الخصوبة، أو محملة بالطوب الأحمر المحروق القادم من أشهر قرية تنتجه بالقرب منا، وهي قرية "الفرستق"، والطوب مختوم بختم بارز الحروف "موسى ومكاوي عيسى"! كبار العائلة مالكة مصانع وقمائن الطوب، وربما تعود الجمال أيضا محملة بالبلاليص "الزلع" الفخارية التي تحملها المراكب الشراعية الضخمة النازلة مع النهر قادمة من قنا، وكان منظرها وهي قادمة من بعيد مدهشا بلا حدود، أو قل رائعاً، سواء كانت الروعة هي الخوف والترقب، أو هي الإبداع والتفرد!

فوق المراكب تتصاعد صفوف الزلع أو البلاليص والأزيار ــ جمع زير ــ والقلل إلى ارتفاع شاهق وفوقها كلها يقبع بعض الحمير والبشر، لزوم حمل ما سيتم إنزاله لتحمله الحمير وتنطلق ومن ورائها الباعة الذين سيمرون في القرى لبيع تلك الأدوات! وكانت صيحاتنا لكل مركب تعبر في عرض البحر "النهر": "يا ريس يا مراكبي تبيع الخروف إللى على الدفة"! ويرد هو بما هو مناسب من عبارات جارحة!

هذا بالنسبة للمراكب النازلة من الجنوب، أما المراكب الصاعدة من الشمال الآتية من البرلس وبلطيم ورشيد فترسو محملة بالسردين وأم الخلول والفسيخ وبالبلح الرامخ وبأطنان الملح الرشيدي ذي البللورات الضخمة شديد البياض والنقاء.. وينزل الرجال القادمون من الشمال حاملين القفف الممتلئة بالبلح والملح والسمك المملح وأم الخلول على ظهورهم، ومن ثقلها يضطر أن يمشي منحنيا إلى الأمام، ونحن نتجمع كشياطين الإنس لنشاغله من الأمام، فيما بقيتنا يخطف بعض ما في الحمولة ويجري، والمسكين يحاول الاستدارة بالحمل ليطرد اللصوص الصغار ويثور، ليتكرر حرف القاف: "يا ولد يا قليل الرباية حقول لأبوك".

ويتم البيع بالتبادل العيني.. يعني منتجات البلح والملح والسردين مقابل الردة والذرة والأزر وزبل الحمام "زرد" الذي يعد أقوى سماد عضوي لتسبيخ النخل والبطيخ! وكان بعضهم ينزل نواحينا خصيصا لينادي "زبل الحمام للبيع.. ياللي عندك زبل حمام"!

استطالت المقدمة رغم أنفي، لأن الحنين للسرد مستبد بالعبد لله، وهو المنفذ الوحيد الذي أجده ملاذا للهروب من وجع الدماغ ومناهدة القلب بالكتابة في السياسة!

ذات مرة كنا نتنطط على أكياس القطن نوع "كرنك" طويل التيلة، الذي كنا نزرعه ثم فلتت طوبة من يد محمد ابن عمي إبراهيم لتصيبني في ذراعي، وصرخت موجها إليه سبابا نصه: "حاسب.. يلعن أبو دمك" وكررتها ليلتقطها إبراهيم ابن عمي محمد، وكان يكبرنا جميعا- رحمة الله عليه- وليقرر أنني عديم التربية لأن "دمه" يعني "أبوه وجده وأخواله وأعمامه وأمه"!

ودقائق وانتقل البلاغ بالجريمة لجدي الحاج محمد، الذي كان يجلس بالقرب تحت شجرة يشرب الشاي مع الرجال الذين ينزلون أحمال الجمال ثم يحملونها بالمطلوب تحميله! .. وكان العقاب المناسب هو الحرمان من الرحلة.

ومرت السنون لأدرك فيما بعد - بعدما جاء عصر "عقلنة" الأمور - أن لما جرى مضمونا عميقا أشك أننا جميعا أثناء الواقعة كنا ندركه.. أدركت أن على المرء إذا أراد أن يصيب هدفا - ولو بضرب الرصاص - فعليه أن يتروى جيدا، وأن يفكر مليا، أين ستمر الرصاصة قبل أن تردي عدوه أو تصيب صيده! وهذا هو بيت القصيد أو مربط الفرس في هذا المقال!

لقد أراد البعض- عن سبق إصرار وترصد- أن يستخدم الحادث المأساوي المؤلم البشع، أي مصرع الشاب الإيطالي، ليصوب رصاصة على نظام الحكم.. على الرئيس والجيش والحكومة والداخلية بوجه خاص! وامتلأت صفحات التواصل الإلكتروني والصحف وموجات الفضائيات بالانتقادات والهجوم والتهجم أو التحريض والاستعداء، وكأن الحقيقة قد انجلت وثبت يقينا أن أجهزة النظام وراء الجريمة! وسارع بعض الذين يجيدون الكتابة بالإنجليزية والفرنسية والطليانية بتدبيج المقالات والتقارير وكلها في هذا الاتجاه!

"الانقلاب.. النظام الشمولي الديكتاتوري.. الدولة البوليسية المتسلطة.. اغتيال البحث العلمي وإعدام الباحثين وسد الطريق أمام العلماء.. القضاء المشكوك في نزاهته.. والنيابة المتواطئة..." ثم يصب ذلك في نداءات: عاقبوا الديكتاتورية.. أوقفوا السياحة.. امتنعوا عن زيارة مصر.. افضحوا القتلة السفاحين، وإجمالا وبالبلدي الفصيح: "طربقوها على دماغ ما ومن فيها"!

إلى هذا الحد اندفع من يزعم معظمهم انتماءهم لليبرالية وتقديسهم للحرية بلا حدود، ويزعم بقيتهم انتماءهم لليسار الثوري الراديكالي.. ويصرون جميعهم على إظهار الالتزام بما جاء في الكتاب.. كتاب الليبرالية والحريات.. وكتاب فناء الدولة وتدمير مؤسساتها باعتبارها في نشأتها ومسارها أداة القمع الطبقي وجوهر الانحياز للاستغلال ومصادرة إرادة الجماهير!

إلى هذا الحد انطلقت الذخيرة من مختلف الأعيرة بهدف إصابة النظام، رئيساً وحكومة وجيشاً وشرطة، دون أن يفطنوا أو ينتبهوا لحظة واحدة إلى أن مقذوفاتهم النارية تمر في قلب الوطن وجسده.. وحاضر الشعب ومستقبله!

نعم هي جريمة ومأساة أن يكون هذا هو مصير شاب وباحث، أي إنسان، أيا كانت جنسيته وهويته وميوله ونشاطه ومواقفه، ولكن المواقف لا تتجزأ لأننا لم نجد اندفاعاً مماثلاً من هؤلاء المتباكين الذين أقطع بأن ما حدث للشاب الإيطالي لا يشغل بالهم لحظة، باتجاه إنسان مصري لقي حتفه وبالبشاعة نفسها على يد الإرهاب، ومنهم شباب يستعد لبناء أسرة، وآخرون لديهم أسر وأولاد وأجنة في بطون أمهاتهم! .. وكل ما يشغل أولئك هو "طربقة" الوطن واغتياله.

والفضيحة الكارثية أن بعض هؤلاء المحرضين على ذبح الوطن كله، محسوبون على الأستاذية في الجامعات، وعلى البحث العلمي، وهم أبعد ما يكون عن تقاليد الأستاذية وأصول البحث، ويلهثون وراء انتداب أو سفرية أو منحة أو تمويل...

ولأن المساحة لن تسعفني لأستكمل فإنني أنادي بدوري: فلنقاوم هؤلاء القتلة الذين يغتالون وطننا ويدمرون وجودنا مع مقاومتنا لأي صورة ودرجة من صور ودرجات الاستبداد والفساد، ولك الله يا مصر!
                     
 نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 9 فبراير 2016

No comments:

Post a Comment