Thursday, 4 February 2016

جهازنا المناعي.. الإصابة الثانية




أحاول أن أرصد سببًا آخر لانهيار جهاز المناعة الوطني المصري في مواجهة سرطان التطرف والإرهاب المرتدي عباءة الدين، إذ سبق وكتبت عن مقدمات انتشار السرطان وتمكنه، ثم عن أول إصابة أتصور أنها ضربت جهاز المناعة المصري، وهي ازدواج نظام التعليم بين أزهري وبين حديث أسسه محمد علي باشا والي مصر بعد أن عجز عن الاستجابة لرؤية الشيخ حسن العطار، الذي دعا لتطوير وإصلاح التعليم في الجامع العتيد، وأدى هذا الازدواج في مسارات التعليم إلى ما اعتقد أنه ازدواج في الثقافة وفي الوجدان، وفصلت هذا الجانب في مقال الأسبوع الفائت.

واليوم أحاول أن أرصد ما أتصور أنه الإصابة الثانية التي ضربت جهاز مناعتنا الوطني، وهي بقاء مصر مجتمعا في حالة تحول طيلة الفترة من تقويض تجربة محمد علي في القرن التاسع عشر إلى الآن، وهو تحول لم يؤدِ إلى استقرار ولا إلى إتمام للتجارب المختلفة، ولذا فقد يكون الأكثر دقة هو أنها حالة انقطاع بين كل تجربة وبين تطورها الطبيعي، ثم بين التجارب بعضها البعض.

ولذلك فإننا لو ترجمنا حركة تاريخنا إلى شكل بياني لوجدنا أنفسنا على الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية أمام خطوط بيانية قزمية متجاورة غير متصلة، فيما المفترض أن يكون خطا بيانيا واحدا فيه صعود وهبوط، وله قمم وقيعان لكنه متصل.

وبدون الغوص بعيدا في تاريخنا إلا أنه لا بأس من الإشارة سريعا إلى أن الاضمحلال الذي لحق بمصر قبيل غزو الإغريق لها قد اختلف في تفسيره، وبعيدا عن الأسباب الكامنة من ورائه، إلا أننا نلاحظ انقطاعا واضحا بين مصر ما قبل الإغريق وبين العصر الإغريقي، ومن بعده الروماني، ومن بعدهما العربي الإسلامي.

وبقفزة شديدة إلى العصر الحديث سنجد أن تجربة مصر الحديثة التي حاولها محمد علي الكبير تحطمت بما ترتب على معاهدة لندن 1840 وفي المقدمة تحجيم الجيش المصري، وجاءت محاولة إسماعيل باشا لتتحطم بدورها بالديون الأجنبية والتدخل الخارجي، وبعدها جاء الاحتلال البريطاني ليحدث الانقطاع واضحا بين حلقات حكم الأسرة العلوية إلى أن أزيحت من الحكم بثورة يوليو 1952 التي لم تستكمل بدورها تجربتها عندما ضربت بهزيمة 1967.

وهكذا لم يجد التحول نحو الليبرالية والاقتصاد الحر سبيلا ليصبح بناء ليبراليا ورأسماليا قبل 1952 كما لم يجد التحول نحو الاشتراكية سبيلا ليصبح بناء اشتراكيا بديمقراطية اجتماعية فيها مسحة تعددية بعد 1967!

ومع السادات ومن بعده مبارك، وهما نظام واحد في رأيي، كانت محاولة العودة لليبرالية السياسية والاقتصاد الحر، إلا أنها كانت محاولة ممسوخة اكتملت فيها عجينة الاستبداد مع الفساد، وكان مستحيلا أن يستمر الأمر فحدث الانقطاع بثورة يناير 2011...

وها نحن مازلنا نحاول التحول مجددا من فساد واستبداد أعقبهما فاشية إخوانية دينية لعلنا نجد سبيلا لليبرالية سياسية ورأسمالية اقتصادية، خاليتين من الاستبداد والفساد وبعيدتين عن الفاشية!

إن الانقطاع الحادث في تاريخ مصر السياسي والاقتصادي انعكس على بنيتها الاجتماعية مباشرة، فلم يتبلور تكوينها الطبقي واضح المعالم بحيث يدار الصراع داخل المجتمع على أسس واضحة بين طبقات دنيا وأخرى متوسطة وثالثة عليا، ولكل مصالحه ووعيه، بل إن الخطير هو أن التشوهات السياسية والاقتصادية خلقت تشوها اجتماعيا بشعا، تمثل في نشوء فئة اجتماعية استفادت من الاستبداد ومن الفساد فضاربت على كل شيء وتاجرت في كل شيء، وضربت عرض الحائط بكل الضوابط الدستورية والقانونية والأخلاقية، التي تحكم علاقات القوى الاجتماعية، وانتقل التشوه إلى مؤسسات الحكم على النحو الذي عايناه وعانيناه متغلغلا من البلاط الرئاسي إلى أصغر موظف في جمعية زراعية أو مجمع استهلاكي!

والسؤال الضروري هنا هو هل لحق الانقطاع كل الجوانب في الحياة المصرية؟
والإجابة الأولية هي: "لا"، لأن بؤر المقاومة ظلت يقظة على الصعيد الثقافي بالمعنى الواسع للثقافة، خاصة أن الانقطاع ارتبط بالتدخل أو الوجود الأجنبي، ولذلك احتدمت القضية الوطنية.. قضية احتلال الأرض وكسر الإرادة، فكانت حركات المقاومة منذ دخول الإغريق لنشهد ظاهرة الهجرة واللجوء للصحراء لتشكيل فرق المقاومة، وكانت حركة الرهبنة استمرارا لذلك بدرجة أو أخرى، وتنوعت المقاومة بين إيجابية فاعلة وبين سلبية بإدارة الظهر لكل ما يريده، أو يفعله الحاكم، ونستطيع أن نرصد حلقات متصلة من الفعل المقاوم المصري على مر العصور، إلى أن حلت الكارثة بتمكن السرطان المرتدي عباءة الدين من البنية الثقافية، ويصعد الإخوان إلى كرسي الحكم ليعلنوا أنهم سيستمرون فيه لخمسة قرون مقبلة، على الأقل.

ثم إن انعكاس الانقطاع في الجانبين السياسي والاقتصادي على الجانب الاجتماعي، خاصة غياب أو تأخر البلورة الطبقية تجلى سلبيا أكثر ما تجلى في ضرب أو تفكيك الطبقة الوسطى المصرية، التي تعد في نظر كثيرين من المهتمين بالتاريخ الاجتماعي "دينامو" الحركة التاريخية، وقد رأى البعض أن ثمة مشروعًا في اكتمال ملامح تلك الطبقة حدث في الستينيات، غير أن هذا الاتجاه للاكتمال تعرض لهزة فادحة بمجيء حقبة الانفتاح الاقتصادي المنفلت، وارتبطت بها حقبة شديدة التأثير فيما نتحدث عنه، وهي حقبة نزوح ملايين المصريين إلى مناطق إنتاج النفط، حيث كان التأثير الأفدح على ثقافة المصريين، الأمر الذي يستحق أن أخصص له المقال المقبل.
                       
 نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 4 فبراير 2016

No comments:

Post a Comment