Wednesday, 26 October 2016

عشت على الأرصفة




في دير الشايب بالأقصر، جلست على الأرض مع من يدقون النواقيس ويترنمون، وفي دير الأنبا بيشوي توغلت حتى المكان الطاهر المقدس الذي يتعين أن يسجد الراهب عند دخوله، وكان أبونا سدراك، الذي أصبح فيما بعد مطرانًا للقدس رحمة الله عليه، في الدير آنذاك، وكان بيننا حوارات أظنها شديدة الثراء! وفي الكاتدرائية المرقسية الكبرى بالأنبا رويس حاورت قداسة البابا شنودة لمدة ثلاث ساعات، وكانت متعة روحية وعقلية رائعة، وفي ساحات البدوي والدسوقي والشاذلي والقنائي وعلى الأرصفة المحيطة بمشاهد آل البيت مولانا الإمام الحسين، وستنا السيدة زينب أم هاشم الطاهرة، وستنا السيدة نفيسة العلوم التي ختمت القرآن في موقع دفنها سبعين مرة، وكان الإمام الشافعي يتلقى عنها العلم الشريف، لبست الخرقة ومضيت حافيًا أشاهد تجليات الشطح على ألسنة وفي وجوه الفقراء.. أي الدراويش المحبين!

وفي العراق ذهبت ذات مرة مدعوًا دعوة رسمية، وقابلني من عاتبني على أنني رفضت الاستجابة لدعوات سابقة كان هو من وجهها لي، وهو سفير للعراق بمصر، ثم سألني متلهفًا: هل جئت هذه المرة لتقابل السيد النائب؟! وكان يقصد طه ياسين رمضان.. فقلت له: بل سأقابل الأهم! فانتبه بشدة وسأل بحذر واحترام: هل تقصد أنك ستقابل السيد الرئيس؟! وكان يقصد صدام حسين- رحمة الله على النائب والرئيس- فقلت له: بل الأكثر أهمية! وإذا به يمتعض ظنًا أنني أمزح في غير موضع المزاح، ولم أتركه لامتعاضه، حيث بادرته بسرعة: جئت لأزور أولًا وقبل أي أحد آخر الإمام علي والإمام الجنيد والحلاج!

وبالفعل، وفي يوم وصولي نفسه، توجهت عصرًا إلى حيث مرقد الجنيد، وإلى جواره "السري السقطي".. وبالقرب منهما مرقد فتى سيدنا موسى واسمه كما هو مكتوب! يوشع بن نون.. وبجوار ضريح الجنيد والسري السقطي كانت نخلة يتساقط منها أطيب رطب ذقته، وعين ماء من أصفى ما شربت! بعدها ذهبت إلى الإمام موسى الكاظم ولم أتمكن من الذهاب للنجف!

ثم كانت الذروة بالقرب من الروضة الشريفة بالمدينة المنورة- على ساكنها أفضل السلام وأتم التسليم- بكيت وناجيت وتوسلت وصرخت ومت آملاً في حياة!

وكلما تخيلت المحروسة بدون حماتها وحراسها الذين لم ينقطع سلسالهم منذ إدريس "أوزوريس"، وأنها أضحت مكشوفة بلا وجدان تيقنت أنها نهاية العالم، وسرعان ما أطرد الكابوس الذي يهجم على روحي كلما شاهدت أو طالعت ما يتصل بأمثال مخيون وبرهامي والحويني والإرهابيين الذين نزع منهم الوجدان انتزاعًا حتى صارت الحجارة أرق منهم وأكثر عاطفة على خلق الله!

حاولت أن أتلمس التيسير للذهاب إلى البدوي والدسوقي، حيث توالت الاحتفالات بهما هذه الأيام، فلم يكن ثمة نصيب، وحزنت لأن التيسير علامة الإذن، وانصرفت إلى قراءة أورادهما، ومضيت إلى المراجع أنقب في السيرة، لعل في القراءة ما يعوض الزيارة!

في الأديرة، وفي الساحات، وعلى الأرصفة الصوفية، تجلّت أصالة السبيكة، وظهرت متانة الضفيرة.. ولا يمكن لمن كان له قلب ووجدان ألا يتمايل بكل كيانه فيما هو منصت بكليته إلى الترانيم في الأديرة والكنائس وإلى الإنشاد والأذكار في الساحات وعلى الأرصفة، وليست مبالغة ولا تهيؤات عندما تستقبل روحك عبر أذنيك ترنيمة وإنشادًا مسيحيًا، وتمضي إلى الحضرة في الساحة وعلى الرصيف، فإذا بالجملة الموسيقية والإيقاعية والنصوصية تستكمل نفسها لأن المصدر واحد والمشرب الصافي هو.. هو!

في دسوق يقيم مولانا قطب الغوث إبراهيم الدسوقي، ابن أبي المجد، ابن قريش، ابن محمد، ابن أبي النجاء، ابن زين العابدين، ابن عبد الخالق، إلى أن يصعد النسب إلى جعفر الزكي، ابن علي، ابن محمد الجواد، ابن علي الرضا، ابن موسى الكاظم، ابن جعفر الصادق، ابن محمد الباكر، ابن علي زين العابدين، ابن الحسين، ابن علي، ابن أبي طالب، القرشي الهاشمي.

ودسوق حسب علي باشا مبارك في خططه التوفيقية الجديدة لمصر والقاهرة ومدنها وبلادها القديمة والشهيرة هي "بلدة جليلة مركز قسم من مديرية الغربية- لم تكن محافظة كفر الشيخ استقرت بعد- على الشاطئ الشرقي لبحر رشيد قبلي- جنوبي- فوة بنحو ساعتين.. وأبنيتها بالآجر الجيد، وفيها قصور مشيدة بشبابيك من الزجاج والحديد، منها قصر لعبد العال بيك، رئيس مجلس الغربية، وقصر للسيد إمام القصبي، شيخ جامع سيدي أحمد البدوي، وقصر لبسيوني الفار، من ناحية دميرة.. وبها أحد عشر مكتبًا لأطفال المسلمين، ووابورات مياه، أحدها لذات العصمة عين الحياة... وبها ثلاثة جوامع، أكبرها وأشهرها جامع القطب الحقيقي سيدي إبراهيم الدسوقي، الذي بناه أولًا بعض السلاطين، ثم وسعه وأعاد عمارته السلطان قايتباي، والآن- سنة 1293 هجرية- جارٍ تجديده على طرف الخديو إسماعيل بمعرفتنا، أي علي مبارك".

وفي الطبقات الكبرى لسيدي عبد الوهاب الشعراني، يختص سيدي إبراهيم الدسوقي بأكثر من خمس وعشرين صفحة من الحجم الكبير، مشبعة بعطر فواح هو عبارات نورانية مقتبسة من مشكاة إمام الشريعة والحقيقة القطب الدسوقي. ومن عباراته التي هي محيط بغير حدود أختم بهذا الاقتباس: "العارف يرى حسناته ذنوبًا.. ولو آخذه الله تعالى بتقصيره فيها لكان عدلًا"، وكان يقول: "يا أولادي اطلبوا العلم ولا تقفوا ولا تسأموا، فإن الله تعالى قال لسيد المرسلين: "وقل رب زدني علما"، فكيف بنا، ونحن مساكين، في أضعف حال وآخر زمان، وسبب طلب الزيادة من العلم إنما هو للأدب يعني اطلب الزيادة من العلم لتزداد معي أدبًا على أدبك، وما قدروا الله حق قدره".

سلام عليك يا أبا العينين في ذكرى مولدك.
                         

نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 26 أكتوبر 2016.

No comments:

Post a Comment