الصدفة.. ولا شيء
غيرها، أن ينتشر إعلان عن أن "طلعت حرب.. راجع" وكتابة هذه السطور عن
الرجل نفسه، الذي صار مثله مثل نماذج عديدة في تاريخ الوطن تؤدي ظروف حياتهم
وتفاصيل مسيرتهم لأن يتحولوا من ذات فردية إلى موضوع يشغل العقل الجمعي عبر مراحل
تاريخية متعاقبة، وقد سبق وكتبت الأسبوع قبل الفائت مقالا احتوى مقدمة فيها تفاصيل
عن كتاب "طلعت حرب وتحدي الاستعمار.. دور بنك مصر في التصنيع 1920 -
1941" لمؤلفه إيريك دافيز وترجمة هشام سليمان عبدالغفار، ومراجعة وتقديم
العالم الجليل الدكتور إبراهيم فوزي، الأستاذ بهندسة القاهرة ووزير الصناعة الأسبق
وأحد أبرز العقول المصرية المهتمة بالتأسيس العلمي الجيد للأجيال الطالعة، ومقدما
أعتذر للقارئ عن أن المساحة المتاحة للمقال قد لا تفي بعرض تحليلي لما جاء في
الكتاب، وهو رسالة دكتوراه قدمت لجامعة شيكاغو، وتعد في نظري مثلها مثل دراسات جادة
في التاريخ الاقتصادي - الاجتماعي المصري، مرجعا علميا يتضمن تشريحا متميزا للتطور
الاقتصادي - الاجتماعي المصري وارتباطه بالأبعاد السياسية في النصف الأول من القرن
العشرين.. وهنا لابد من الإشارة السريعة لدور قسم التاريخ في آداب عين شمس
والسيمنار العلمي الذي كان يرأسه أستاذنا الكبير الراحل الدكتور أحمد عزت عبد
الكريم ومعه أستاذنا المتميز الراحل الدكتور أحمد عبدالرحيم مصطفى في حفز مجموعة
من الباحثين لمرحلتي الماجستير والدكتوراه للاتجاه نحو التاريخ الاقتصادي -
الاجتماعي وكسر الاقتصار على التاريخ السياسي الذي كان ينظر إليه باعتباره العمود
الفقري للدراسات التاريخية، وكم هو مثير للفخر أن يجد المرء إشارات في مصادر
ومراجع إيريك دافيز لأبحاث الأستاذ الدكتور عاصم الدسوقي المؤرخ المصري الذي أعد
رسالته للدكتوراه عن كبار الملاك الزراعيين.
إننا بصدد سؤال مكرر
هو: هل يعيد التاريخ نفسه وهل تتكرر أحداثه بحيث يسهل أن نقول إن "طلعت حرب..
راجع" أو أن حقبة بذاتها تعود؟ والإجابة ببساطة متناهية هي أن الماضي لا
يعود، وأن الأمم الحية لا تعيد إنتاج ما سبق وجرى في سياقاتها التاريخية، وإنما ما
يتم أو يجب أن يتم هو رصد هذه السياقات رصدا علميا وتحليلها واستخلاص دروسها
وتعظيم إيجابياتها بالتراكم الإيجابي وعدم الوقوع في سلبياتها أو أخطائها!
ثم إن أبرز ما يتم
التقاطه من دراسة مثل التي نحن بصددها، هو ما يمكن أن أسميه بتجليات الظاهرة
الاقتصادية - الاجتماعية - السياسية، وما يتصل بها من جوانب سياسية ومن صراعات بين
القوى القائمة، وهي في مرحلة الدراسة من 1920 - 1941 الفئات الاجتماعية مثل كبار
الملاك الزراعيين وكبار التجار، ومثل شرائح ما يطلق عليه البرجوازية الوطنية،
كبيرة ومتوسطة وصغيرة، ومثل الأحزاب السياسية التي كان أبرزها آنذاك حزب الوفد
وحزب الأمة ومن بعده حزب الأحرار الدستوريين والحزب الوطني وحزب الشعب، وفي
المواجهة من هؤلاء الاحتلال البريطاني.
ولقد رصد الباحث عمودا
فقريا تشكلت التطورات متصلة به، هو العلاقة الجدلية بين رأس المال الوطني المصري
وبين رأس المال الأجنبي، وكيف أن الواقع الذي فرضه الأخير، أي رأس المال الأجنبي
ممثلا في بنوك وشركات ونفوذ اقتصادي - اجتماعي ومن ثم سياسي، هو الذي ساهم في
تخليق الجنين الرأسمالي الوطني المصري الذي أخذ في النمو ليدخل في صراع واضح ضد
الهيمنة الأجنبية، وكانت الأرضية الأساسية هي ما يحدث في مجال الأرض الزراعية والاستصلاح
الزراعي، وهنا تتجلى قدرة الباحث في مجال التاريخ الاقتصادي - الاجتماعي على رصد
الخلفيات والمقدمات التي وصلت إلى حجم حرج، استدعى طاقات وطنية ممثلة في بعض كبار
الملاك الزراعيين ومن عائلات بعينها ومناطق بذاتها، لتتردد أسماء عائلات الشريعي
وعبدالرازق وخليفة مرزوق وأحمد إسماعيل والطويل والوكيل والخطيب والجزار والشعراوي
ولملوم ودوس والباسل، ولنجد في قائمة المساهمين في إنشاء بنك مصر أسماء مثل سوارس
ورولو وصاروفيم مينا عبيد وصليب بك منقاريوس!
ويلخص إيريك دافيز
معالم البداية التي انطلق منها الصراع في سطور يقول فيها: "إن اندماج مصر في
السوق العالمية خلال القرن الثامن عشر كان بداية تحولات مهمة في الهيكل الاجتماعي
المصري، كما تزايد بشدة حجم رأس المال الأجنبي العامل في مصر خلال القرن التاسع
عشر مع تحول الاقتصاد المصري للتجارة كنتيجة للتوسع في زراعة القطن طويل التيلة،
وكان التخبط الاقتصادي الذي خلفته سياسات محمد علي في المجال الاقتصادي، وكذا
الحاجة لتنمية البنية التحتية لمصر وراء خلق دين عام ضخم، وأسفرت هذه الأزمة
المالية عن تحول في موازين القوى السياسية والاقتصادية لصالح طبقة جديدة من أعيان
الأرياف على حساب الطبقة الحاكمة من الأتراك والشراكسة، وكانت زراعة القطن بمثابة
الأرضية المشتركة من حيث المصالح والتي مهدت السبيل لتطور وعي لدى هؤلاء الأعيان
بانتمائهم لهذه الطبقة، كما أعطت التحديات المشتركة التي واجهتهم من قبيل العبء
الضريبي الثقيل وهجرتهم للمراكز الحضرية ومشاركتهم المتزايدة في السياسات الوطنية
وإشراك أعداد متزايدة من المصريين في إدارة البيروقراطية الحكومية والقوات المسلحة
دفعة لهذا الشعور".. وللحديث صلة.
نشرت في جريدة المصري
اليوم بتاريخ 14 يونيو 2017.
No comments:
Post a Comment