لازم العداء البشرية
منذ لحظة الخلق الأولى، واتسعت دائرته من إبليس إلى الأولاد والأزواج! بنص القرآن
الكريم "إن
من أولادكم وأزواجكم عدو لكم...".. ومع الزمن صار العدو والعداء والعدوان
والاعتداء- وما ارتبط بذلك من اشتقاقات- موضوعًا للبحث، بل والإبداع في علوم كثيرة
قد تضم علم النفس وعلم النفس الاجتماعي والتاريخ والاقتصاد والعلاقات الدولية
والعلوم العسكرية وغيرها، وقد تساعدها علوم أخرى كالكيمياء والفيزياء والرياضيات
والطب وكل ما يتصل بصناعة السلاح وتقنيات المعلومات وغيرها! غير أن أهم ما في هذا
السياق- حسبما أعتقد- هو عدو من نوع خاص.. أشد خطورة من كل الأعداء الخارجيين..
مهما كان حجمهم وقوتهم وقدرتهم.. ألا وهو انهيار الجهاز المناعي الوطني، الذي إذا
فصصناه فسنجد في محتوياته عقل الأمة ووجدانها وضميرها وتاريخها وحضارتها وثقافتها
وتماسكها وتوازنها وتعليمها وصحتها ووعيها بأبعاد مكانها وزمانها!
إنهم يقولون في السياسة
إنه لا توجد عداوات دائمة ولا صداقات دائمة، هذا فيما يتصل بالقوى الخارجية، وهي
أنواع حسب درجة اتصالها بموقع الوطن ودوره، وكثيرًا ما يكون الموقع سببًا في تكالب
القوى الخارجية واحتدام المنافسات الإقليمية، وهذا ما لا يلتفت إليه كثيرون ممن
يتخذون عدم دوام العداءات أو الصداقات قاعدة لهم في رؤيتهم للعلاقات مع الآخر، لأن
الأصل ليس هو العدوان ولا الصداقة وإنما هو تحديد مكامن ومصادر ومنطلقات الخطر على
الوطن، فإذا ثبت أن الوطن بحكم موقعه ودوره يبقى في خطر دائم من قوى إقليمية وأخرى
دولية بعينها، وأن هناك من شواهد التاريخ ما يثبت ذلك، صار الأوجب هو الحديث عن
مصادر الخطر وليس مصادر العدوان، ومن ثم فإن تحديد من هو العدو الخارجي يرتبط
بتحديد أين وكيف هو الخطر الخارجي، ومن ثم يمكن تحديد من هو العدو!
وإذا مددنا خيطًا بين
العدو الأول- وهو انهيار جهاز المناعة الوطني- وبين العدو الثاني الخارجي، فإننا
سنكتشف أنه ما من عدو لمصر فكّر في مصادرة دورها وتدمير قواها ومنعها من التقدم
واتجه لتنفيذ ذلك فعليًا إلا وكانت المقدمة الحتمية هي السعي لضرب جهاز مناعتها
الوطني، ليبدأ هذا المركب الحضاري الثقافي المصري الذي تم تكوينه واستمرت تفاعلاته
في مئات القرون في التحلل، ليصبح الأمر مثل الماء إذا عرضته لتأثيرات معينة لترتد
به إلى عناصره الأولى أي الأكسجين والهيدروجين، فعندئذ لا يصبح ماءً ولن تروي عطشك
منه، حيث لن يفيدك أن تأخذ بعض الأكسجين وبعض الهيدروجين لتضمن البقاء بلا عطش!
تلك مقدمة لا بد منها،
وإن استطالت قليلًا، وبعدها يمكن أن نقول إن الشواهد التاريخية أكدت أن الخطر على
مصر كان يأتيها دومًا من الشرق والشمال ومثلما جاءها أيضًا معظم التفاعل الحضاري
والثقافي من الاتجاه نفسه ومن الجنوب والغرب بدرجة أقل على المستويين.. ولذلك
وجدنا أن قدامى المصريين وفي أوج ازدهار الدور المصري حددوا أمنها الوطني
جغرافيًا وسياسيًا- أي بالجغرافيا السياسية- بأنه يمتد من قرن الأرض، أي منطقة
القرن الإفريقي، إلى منابع المياه المعكوسة، أي دجلة والفرات، ومعلوم أنهم أسموها
مياهًا معكوسة لأنها تسير عكس سير النيل؛ أي تأتي من الشمال للجنوب فيما النيل
يتدفق من الجنوب للشمال! وعليه كان الخروج المصري للدفاع عن الوطن حتى لا يتعرض
للتفكيك والتفتيت والنهب والاحتلال يتجه إلى البحر الأحمر وجنوبا حتى ما بعد باب
المندب، ويتجه شمالا بشرق إلى سيناء وفلسطين وحتى جبال طوروس!
ثم إن موجات الغزو منذ
الفرس إلى التتار والمغول والصليبيين وحتى العدو الصهيوني جاءت من ذلك النطاق الذي
حدده أجدادنا القدامى مجالًا لأمننا الوطني، وأيضًا ورغم أن القوى الاستعمارية
الحديثة جاءتنا من الشمال كالفرنسيين والإنجليز إلا أنهم هم أنفسهم أدركوا أنه لا
سيطرة على مصر إلا باستكمال حصار وتهديد وتقويض أمنها الوطني بالسيطرة على بلاد
الشام بالمعنى الجغرافي السياسي الذي يضم سوريا الحديثة ولبنان وقبلهما فلسطين
وشرق الأردن.. فهل هناك أفصح وأوضح من هذا التحديد لمنابع الخطر ومن ثم تحديد
العدوان وبالتالي تحديد العدو! العدو ببساطة هو من يسعى دومًا للتحكم في بوابة مصر
الشرقية الشمالية وقطع اتصالها البري والبحري بالمناطق التي تمثل دائرة أمنها، وهي
المناطق التي جعلتها الصدفة وطنًا عربيًا وأمة عربية!
ولأنني أصبحت لا أجيد
الاستطراد وتوسيع مساحة المقال فلن أعود لأفصل في مسألة العدو الداخلي الخطير، وهو
انهيار جهاز المناعة الوطني؛ لأن التفصيلات هائلة ويستحيل اختصارها في مقال.
نشرت
في مجلة المصور عدد رقم 4837 بتاريخ 21 يونيو 2017.
No comments:
Post a Comment