لو جاء زمن يباح فيه
تحويل حياة الأنبياء والرسل والصحابة إلى مسلسلات تليفزيونية، وتوقف الكاتب أو
السيناريست أو غيرهما من المعنيين بالأمر عند فترة كان فيها النبى يبحث عن الله
كسيدنا إبراهيم مثلا فعبد الشمس وعبد القمر فلما أفلا أدرك الحقيقة، إلى أن وصل
لأن الله هو الإله الذى تحق عبادته! أو توقف الكاتب عند المرحلة التى كان فيها
صحابى كعمر بن الخطاب مشركًا أو كافرًا وفصل فيها قليلا أو كثيرا.. وهلم جر مما
يصدق على كثيرين، فهل يأتى أحد ليقول إن هذا لم يحدث- من باب عدم الحط من مقام
النبوة أو الرسالة أو الصحبة للرسول- وهل يحط من شأن أبى الأنبياء وموسى وغيرهما
ممن تدرجوا فى وصولهم للحقيقة أن فترة فى حياتهم شهدت شركا أو كفرا أو كبيرة؟!
هذا ما دار فى ذهنى عندما تابعت الجدل من
حول مسلسل (الجماعة) الذى لم انشغل به كحلقة فى سلسلة متصلة من الأعمال الفنية
استهدفت النيل من ثورة يوليو وجمال عبد الناصر، وهى سلسلة بدأت مبكرًا، وكان فيها
ما هو بمعايير النقد الفنى ومعايير النقد التاريخى مسفًا ومجافيًا للحقيقة، ولو
شئنا أن نرصد حجم المقالات والندوات والمحاضرات والمسلسلات والأفلام التى سعت
المسعى نفسه لاغتيال شخصية ناصر وتحطيم صورة يوليو لملأنا مجلدات وأسطوانات بغير
حصر! ومع ذلك- مضافًا إليه جهود أجهزة مخابرات إقليمية هنا فى منطقتنا ووراء
البحار، والمليارات التى أنفقت- فإن ناصر والثورة بقيا فى الوجدان الجمعى المصرى
والعربي، وفى بقاع قصية هناك فى آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية؛ ناصعين يحتلان
مكانة رفيعة!
ما توقفت عنده هو ذلك التأله وتلك الغطرسة
من مؤلف المسلسل، ثم ذلك الذى أسموه مؤرخا مسئولا عن المادة التاريخية، وقد وصف
نفسه فى رده على ما كتبه الدكتور خالد منتصر فى جريدة الوطن بأنه الأستاذ الملتزم
بالقواعد المنهجية الصارمة! وشبه الدكتور منتصر بعبد الفتاح القصرى فى فيلم
(الأستاذة فاطمة).
إن التأله والغطرسة لم يكونا متاحين بحال
من الأحوال عندما كان فى الميدان فرسان من طراز ألفريد فرج ونعمان عاشور وميخائيل
رومان ومحمود دياب ومحمد جلال عبد القوى ومحمود أبو زيد وعبد الحى أديب وفيصل ندا
ومحفوظ عبد الرحمن وأسامة أنور عكاشة.. وغيرهم.. وقد ذكرتهم بغير ترتيب زمنى أو
حسب المكانة، لأنهم باقة زاهية فى مسيرة الدراما بوجه عام!
التأله والغطرسة لا يصيبان إلا من فقد
البوصلة تجاه ذاته وتجاه الموضوع، فيعتبر ذاته مقدسة فوق النقد والانتقاد بل
والمراجعة والحوار، وتجاه الموضوع فيسقط ما فى ذاته عليه ويستعين بمن يثق أنه لديه
العوار ذاته، عوار التضخم الأجوف والذات المحصنة والقدرة الفاضحة على لى ذراع
المادة التاريخية لتصب فى الهدف المنشود!
وهنا قد يباح لى أن أستدعى خبرة ثقيلة مع
ذلك الذى اتخذ منه المؤلف مُراجعا للمادة التاريخية، وهى حلقة مسجلة وموجودة على
يوتيوب أدارها الإعلامى طونى خليفة، وفيها كنت أطالب الطرف الآخر بالالتزام بضوابط
مناهج البحث فى علم التاريخ عندما كان يتجاوز ويصدر أحكاما قيمية ويستخدم أفعل
التفضيل كأسوأ وأقذر وما إلى ذلك، وكان رده المسجل هو أننا لسنا فى قاعة بحث
بالجامعة، ورددت آنذاك أن التليفزيون أخطر من قاعة البحث وأدعى للالتزام بأشد
منها!
وقد اكتشفت أن أحد الأسباب الكامنة من
وراء هذا التشوه البادى فى معظم حواراته هو سبب يعود إلى تتلمذه على من عصف من قبل
بالضوابط المنهجية فى دراسة التاريخ، وأذكر يوم مناقشة رسالة الدكتوراه التى كانت
عن سعد زغلول ودوره فى الحياة السياسية، وكنا فى مطلع السبعينيات، وأراد المشرف- وهو
أستاذى الراحل الجليل أحمد عبد الرحيم مصطفي- أن يجامل تلميذه فأتى بمن ظن أنه
متعاطف أيديولوجيا مع الباحث كعضو فى لجنة المناقشة، وهو الراحل العظيم إسماعيل
صبرى عبد الله، الذى ما إن انتهى من ملاحظاته الشكلية حتى ألقى بالقنبلة المدوية،
إذ قال للطالب آنذاك: (لقد ابتعدت عن المنهج العلمى السليم عندما تعاملت مع سعد
زغلول باعتباره زعيما ثوريا فيما هو زعيم إصلاحى بحكم أنه قبِل العمل فى مؤسسات
النظام القائم.. البرلمان والوزارة ولذلك أخذت تلوى ذراع المادة التاريخية لتثبت
وجهة نظرك المنتقدة لسعد باشا)!
هذا الطالب صار أستاذًا مشرفًا على طالب
آخر، هو ذلك الذى أتى به مؤلف الجماعة ليكون مُراجعا للمادة التاريخية، فارتكب
الانحراف المنهجى نفسه الذى وقع فيه أستاذه من قبل، ولذلك ضحكت عندما تذكرت وصفه
للدكتور خالد منتصر بأنه مثل القصرى فى فيلم (الأستاذة فاطمة) إذ تذكرت أيضا فيلم
(حبيبى الأسمر) عندما صاح استفان روستى فى محمد توفيق وهو يخطئ التنشين بالمسدس:
(نشنت يا فالح.. اسفخص على اللى شيلهولك).. وفعلا فإن اللوم فى المقام الذى نحن
بصدده يتعين أن يوجه لمن لم يعلم تلميذه كيف يستخدم أدواته المنهجية بشكل سليم،
ولا يقحم ذاته وقناعاته الشخصية النفسية والأيديولوجية بل والمزاجية فى الموضوع،
فيسقط كل ما فى نفسه من عوار على مادة البحث!
ولقد ترددت كثيرا عن الكتابة فى شأن هذا
المسلسل، واخترت أهون الشرين، وهو كتابة بعض الملاحظات على الحوار من حوله، وسر
ترددى هو أن الحالة صارت كمن يجبر نفسه على أكل طبيخ حامض، إضافة لأن ناصر ويوليو
لن تهتز مكانتهما فى وجدان الأمة والأمم الحرة لمجرد أن مؤلفا ظن أنه وحيد عصره
وأوانه إثر خلو الميدان من فرسانه الأكفاء الحقيقيين ، وقرر الاستعانة بخوجة
مغمور، لأن المؤرخين المشهود بعلمهم وكفاءتهم لا يردون بسرعة على طلباته، ومن
العسير التعامل معهم فيما ذلك المزوى بإحدى كليات السياحة فى إحدى الجامعات
الإقليمية يلبى النداء، وآخر ما جعلنى أتردد، ويجعلنى أنهى الأمر بالنسبة لي، فلا
أعود له ثانية، هو أن الوطن بحاجة إلى كل جهد من أجل استنهاض همته ودفع قواه
الاجتماعية للعمل والانصراف للحاضر والمستقبل بأكثر مما هو بحاجة إلى فتح ملفات
صلاح الدين الأيوبى والمغالطة فى ملفات تاريخ مصر السياسى فى الخمسينيات
والستينيات.
نشرت في جريدة
الأهرام بتاريخ 15 يونيو 2017.
No comments:
Post a Comment