كتبت مقالين متتاليين
خلال الأسبوعين الفائتين في الأهرام عن مسألة الدستور وتعديله، ويبدو أن الأستاذ
نيوتن لا يقرأ سوى المصري اليوم، أو يقرأ الصحف الأخرى ولكنه يعتبر أن ما لم ينشر
في المصري هو والعدم سواء! ومن التخصيص إلى التعميم فإن إحدى آفات حياتنا العامة-
خاصة السياسية والثقافية- هي تضخم الأنا لدرجة يتلاشى معها الآخر، وما يصحب ذلك من
نزوع إلى الزعم بامتلاك الحقيقة والصواب، وحفز الآخر إلى أن يتخلى عن رؤيته ليتبنى
أو يعتنق أو يكون بوقًا لما تريده تلك الأنا! وإلا فهو متخلف وسطحي وما يسطره هو
من سقط المتاع!
ولأن الشيء بالشيء
يذكر، فإن ما قيل عن أن البعض يشهر أسلحته ويندفع كاتبًا، إذا مس أحد أو اقترب من
تاريخ حقبة ما أو شخصية بعينها، بينما لا يكبد نفسه عناء مواكبة الأحداث ومناقشة
القضايا الجسام التي تستحق الاهتمام؛ هو قول له تكملة، وهي أن الأمر برمته بدأه
حملة السكاكين على حقبة بعينها، وكل واحد يطعن مندفعًا بخلفية تخصه، وبعض الخلفيات
السياسية لا تختلف في محتواها عن الخلفيات البيولوجية، وهناك مايسترو لأولئك
الحملة يوجههم ويحفزهم، بل ويقترح عليهم الزاوية التي يجب أن يوجهوا الضربة إليها.
ولأن لكل فعل رد فعل
يضاده في الاتجاه وقد يفوقه قوة في حالات الفكر والسياسة، فإن الانشغال بالتاريخ
والإيغال في إنصاف حقبة ما؛ جاء ردا على ما كان الأستاذ نيوتن هو المايسترو فيه!
ما علينا، وأستأذن
للانتقال إلى الحديث في شأن محدد، وهو التساؤل عن مدى استعدادنا كمجتمع- خاصة
ساسته ومفكريه ومثقفيه وأصحاب المصالح الضخمة فيه- للتفكير في سيناريوهات المخاطر
المحدقة بنا في الداخل ومن الخارج، خاصة أن هناك قوى إقليمية لم ولن تتوقف عن ضمان
كسر الإرادة المصرية وتقويض الوجود المصري الفاعل؛ لضمان تفوقها هي.. إضافة إلى الحجم
المهول المخيف من نقائصنا وبلاوينا الداخلية، التي أشك أن أحدًا قد بذل جهدًا في
حصرها وتصنيفها وتحديد ملامحها ورصد مسارها وتوقع مآلاتها.
إنني أعتقد أن قضية
البنية السياسية المصرية، أي شكل نظام الحكم ومضمون فلسفته ودور مؤسساته، وبما في
ذلك مسألة الدستور؛ يجب أن توضع في السياق الذي هو التساؤل المطروح، لنرى العلاقة
الجدلية بين واقعنا والمخاطر الداخلية والخارجية المحدقة والمستقبلية وبين تلك
البنية السياسية التي يجب أن تكون مصممة للاستجابة لتلك التحديات.. أما الانشغال
بالنصوص وقدسيتها وحرمتها فهو جزء من انشغال واشتغال– معًا– قديمين بالنصوص منذ
أزمة خلق القرآن، التي ثارت قبل ألف سنة وما زالت تداعياتها مستمرة، وكما سبق
وكتبت في مقال نشر بصحيفة أخرى فإن الذين طالما تصدوا لإثبات أن النص السماوي نص
تاريخي يجوز التعامل معه كأي نص آخر، هم أنفسهم الذين يصرخون بقدسية النص الدستوري
وحرمة أي اقتراب منه ولو بتفسيره وتأويله على غير هواهم! وما زلت أؤكد أنه مثلما
قيل إنه حيثما تكون مصلحة الأمة فثم شرع الله، فإن الوارد أيضا القول إنه حيثما
تكون مصلحة الوطن فثم مضمون النص الدستوري.
وفي الحديث عن المخاطر،
وبعيدًا عن هوس المؤامرة، فإن دراسة واقع مسار وتوجهات مستقبل القوى الإقليمية في
منطقتنا يعد من صميم دراسة احتمالات مستقبلنا، ولكي أكون واضحًا أكثر فإن إسرائيل
وتركيا والسعودية وإيران وإثيوبيا لديها ما هو معلن حول مستهدفاتها خلال عدة عقود
مقبلة، ومن المؤكد أيضًا أن لديها ما ليس معلنًا في هذا الإطار، لا لشيء إلا لأنه
يتعلق بمصائر دول أخرى كمصر، حيث كان ويبقى الدور المصري هاجسًا للجميع، سواء في
حالة عنفوانه وتعاظمه، أو حالة ضعفه وانحساره، ولعل ما يؤكد أهمية الأمر هو ما
تشهده مصر الآن من علامات للتعافي الاقتصادي وفي العلاقات الخارجية، وأيضا في
مواجهة الإرهاب، ولا أتجاوز إذا قلت إن الخطاب السياسي والإعلامي للرئيس السيسي في
القمة العربية– الأوروبية التي انعقدت مؤخرًا في شرم الشيخ كان أحد ملامح ذلك
التعافي.
إنني أعلم أن الأجدى في
علاقات مصر بالإقليم وقواه التي أشرت إلى بعضها هو السعي بمهارة كي لا يكون
التقاطع بين الإدارات المختلفة عدائيًا وحادًا على أرضية المصادرة المتبادلة وإنما
يدار بأسلوب غير تصادمي وغير عدائي، بما يكفل لمصر أن تتمم ما بدأته من تعاف، وألا
تتعرض لما تعرضت له من قبل في القرنين التاسع عشر والعشرين، أي مشاريع محمد علي
وإسماعيل وعبد الناصر.
نشرت
في جريدة المصري اليوم بتاريخ 13 مارس
2019.
No comments:
Post a Comment