أظن أن تأثير الجينات التاريخية– إذا
جاز التعبير– المترسخة في تكوين ثقافة شخص ما لا يقل عن تأثير الجينات الوراثية
العائلية، وأبلغ دليل على هذا الذي أظنه هو حالة رجب طيب أردوغان، سليل
الإمبراطورية العثمانية، وبعدها تركيا الفتاة، ومن حظي الذي بعضه عاثر أن أطالع
بين حين وآخر ما يجعل أي بشر لديه إحساس ومشاعر تليق بصفته كإنسان له عقل ووجدان
يعيش الأسى والألم.. فقد قرأت تاريخ الاحتلال العثماني لمصر أثناء فترة دراستي في
قسم التاريخ.. ثم قرأت رواية "جسر على نهر درينا"، للروائي إيفو أندريتش
وترجمة الفذ سامي الدروبي، أثناء فترة السجن عام 1977، ثم ومنذ عدة شهور قرأت كتاب
الدكتور علي بركات عن ثورات الفلاحين المصريين، والآن أحاول أن أمضي في قراءة
المجلد المكون من ألف وثلاثمائة وسبعة وعشرين صفحة من القطع الكبير، وببنط تكاد
العين أن تلتقطه عن إبادة الأرمن.. وفي كل ذلك يجد المرء نفسه إزاء جنس بشري جُبِل
على الاستبداد والدموية وإدمان الولوغ في دماء الخلق والتلذذ بإيذائهم والتنكيل
بهم.. ولا أعرف هل يأتي ظرف مناسب لكي نفعل كمصريين مثلما فعل اليهود مع الدول
التي تعرضوا فيها للقتل والإيذاء، فحصلوا وما زالوا على ما هو أكثر من التعويضات،
ومثلما يحاول الأرمن فعله ضد الدولة التركية، أم أنه كتب علينا أن نفقد حقوقنا
التي أهدرها الاحتلال العثماني، ومن بعده الاحتلال البريطاني.
ثم إنني أفكر جديًا في السعي لتكوين
فريق عمل بحثي، يعكف على إصدار سلسلة من الكتب السوداء، ترصد وتسجل وتحلل ما
ارتكبه الاحتلال الأجنبي لبلادنا، لكي يعرف الجميع أن ما تتعرض له مصر الآن، ومنذ
تمكنت من أن يحكمها أبناؤها مع يوليو 1952، من حروب على كافة المستويات، هو جزء من
سياق تاريخي طويل حافل بكل ما هو مأساوي.. ومن أسف أن بيننا من أدمن الذل
والعبودية والقهر، فتراه يترحم على حقب حكمنا فيها العثمانيون من أتراك وألبان،
ومعه من أدمن الخيانة فذهب إلى أحضان نظام أردوغان كي يساعده على تقويض مصر
وتدميرها.. أي أننا إزاء من خان عقله ونفسه فتباكى على حقب الذل والهوان.. ومن خان
وطنه فاتخذ من النظام التركي سيدًا له يعاونه في تدمير مصر!
كتاب إبادة الأرمن نشرته جمعية
القاهرة الخيرية الأرمنية العامة، وهو من تأليف الدكتور "ريمون
كيفوركيان"، الحاصل على الدكتوراه في جامعة باريس 4 عام 1980، وصدر في الأصل
باللغة الفرنسية عام 2006 وصدرت ترجمته الإنجليزية عام 2009 وترجمته للعربية عام
2015 الأستاذة سحر توفيق.
ويرصد الكتاب ويوثّق ويحلل الإبادة
الجماعية للأرمن، التي اقترفتها حكومة تركيا العثمانية، خلال الحرب العالمية
الأولى، وبلغ عدد ضحاياها مليونًا ونصف المليون إنسان أرمني، وكان الدافع الأساسي-
كما جاء في تقديم الكتاب- هو رغبة قيادات حزب الاتحاد والترقي "تركيا
الفتاة"، التي كانت تستبد بحكم الإمبراطورية العثمانية، بناء دولة قومية
تركية تستبعد من كيانها الأقليات العرقية غير التركية.. وفي هذا السياق يحضرني ما
عرفناه وتعلمناه حول نشأة الفكرة القومية العربية والآباء الأوائل من المسيحيين
العرب الذين لاذوا بانتمائهم القومي العربي لمقاومة التتريك والاضطهاد التركي،
ويحضرني أيضًا المذابح التي ارتكبها جمال باشا السفاح ضد المناضلين العرب في سوريا
من مفكرين ومثقفين وقادة وطنيين، منذ عام 1912، وكانت الذروة عامي 1915 و1916، حيث
اغتيل نخلة مطران في إبريل 1912 ومن قبله أعدم الخوري "القس" يوسف
الحايك في 22 مارس 1912، وأعدم الشهيدان فيليب وفريد الخازن في يونيو 1916.
وأعدم شفيق مؤيد العظم، وعبد الحميد
الزهراوي، والأمير عمر الجزائري، وشكري العسلي، ورفيق رزق سلوم، ورشدي الشمعة،
وعبد الوهاب الإنجليزي، ناهيك عن النفي الإجباري والتشريد لمئات من الأسر العربية
من سوريا- بما فيها لبنان آنذاك- إلى الأناضول.
وأعود إلى إبادة الأرمن، حيث قامت
قيادات الاتحاد والترقي باقتياد الأرمن في قوافل موت من وطنهم التاريخي إلى صحارى
سوريا والعراق، ليتم ذبحهم وبعدها مصادرة أملاكهم وأموالهم الثابتة والمنقولة.
وفي مقدمته يقدم المؤلف المؤرخ
تفسيرًا لظاهرة الإبادة فيكتب: "إن قيام دول بتدمير جماعات تاريخية هو فعل
دائمًا ما يكون ذروة عمليات معقدة تنمو وتترعرع في ظروف سياسية واجتماعية معينة...
ويتم تبرير الفعل بناء على بنية أيديولوجية تتصور ضرورة اجتثاث "أعداء
الداخل" من جسد المجتمع، ولكن كل لحظة من لحظات العنف الإبادي تتبع منطقًا
داخليًا يضفي عليها تفرده.. وجاء التدمير الفعلي للسكان الأرمن في الإمبراطورية
العثمانية، ليكون له بدوره ملمحه المتفرد، فقد جرى تصوره كشرط ضروري لبناء الدولة
الوطنية التركية، أي الهدف الأسمى لتركيا الفتاة، التي كان الشعار الذي تبنته هو
"التدمير كبناء للذات"..".
ومن الثابت أنه كان فيهم نساء وأطفال
يؤخذون إلى البحر على بوارج ويتم إغراقهم.. وحتى بعض الأطفال الذين سلموا إلى
مستشفيات الهلال الأحمر تم تسميمهم.. ثم نهبت الممتلكات والمجوهرات وكل ما يمكن
نهبه.
نشرت في
جريدة المصري اليوم بتاريخ 5 مارس 2019.
No comments:
Post a Comment