وقعت في
"سركي" الكتابة عن التعديلات الدستورية مرتين، واعتبرت أن أولاهما-
وكانت بعنوان "دستور يا أسيادنا"- توقيع حضور، وأن الثانية- وكانت
بعنوان "الفريسيون والدستور"- توقيع انصراف، بمعنى أنني قلت رأيي ومضيت
أو مشيت، وكان الحضور والانصراف كلاما يتصل بقضية مشروعية تعديل الدستور، والتعامل
معه كنص وضعي بشري يقبل التأويل والتعديل والإضافة والحذف بل والوقف والإلغاء،
وألمحت إلى أن معظم الذين يصرخون بقدسية النص الدستوري هم أنفسهم أو غالبيتهم
الذين لم يكفوا عن الصراخ والعويل والمحاججة، مطالبين بنزع قدسية النصوص القرآنية
والنبوية، وخاصة ما يتعلق منها بتنظيم الحياة البشرية في نطاق المعاملات، ووسعها
البعض لنطاقي العقائد والعبادات، واليوم أستأذن في التوقيع لثالث مرة، ولكن في كشف
آخر من كشوف "السركي"، وهو المتصل بفحوى التعديلات، بعد أن قرأت ما كتبه
الأستاذ الدكتور محمد غنيم في "المصري اليوم" عدد الثلاثاء 19 فبراير
2019 تحت عنوان "حول التعديلات الدستورية المقترحة"، وفوق ما يمكن قوله
حقا وصدقا في تعريف الدكتور غنيم كنموذج للعالم العامل الملتزم الجاد الذي قدم
للأمة المصرية صرحا علميا طبيا فريدا في مجال أمراض الكلى والمسالك، فإن الرجل
أضاف في وصف نفسه عبارة عميقة المغزى، هي أنه "مواطن يغرد منفردا ولا ينتمي
لجماعة أو ائتلاف أو حزب، وانتماؤه الوحيد هو لثورتي 25 يناير و30 يونيو، ويتطلع
إلى وطن صاعد واعد ينعم بالاستقرار والتنمية والتعددية وسلمية تداول السلطة"..
وكم هو مهم هذا العريف لأقصى حد، وكم أتمنى أن يتكرر بالملايين وجود مواطنين
مصريين يكون هذا هو هدفهم: "استقرار.. تنمية.. تعددية.. تداول"!!
إنني أجد نفسي متفقا مع
ما أتصور أنه جوهر ما كتبه الأستاذ الدكتور محمد غنيم، أي مع التوازن الذي يؤدي
إلى التماسك ومن ثم القوة والانطلاق، وفي ظني أن مصر منذ تخلصت من الحكم العثماني
وامتداداته ممثلة في الأسرة العلوية، وآل حكمها لأبنائها المصريين الأقحاح وليس
المتمصرين والمفروضين بالسلاح، وهي تحاول التوازن اجتماعيا واقتصاديا ومن ثم
سياسيا خلال السنوات من 1952 إلى الآن، وهي مدة يسيرة للغاية إذا ما قورنت بسياق
حكم المتمصرين، الذي امتد منذ حوالي القرن السادس قبل الميلاد بالغزو الفارسي حتى
1952.. ولم تكن الصيغ السياسية التي ظهرت منذ هيئة التحرير إلى الحزب الوطني، إلا
محاولات لتحقيق شكل من أشكال التوازن بصرف النظر عن نجاحها أو فشلها.
وفي تعليقاته على ما
أُعلن من تعديلات دستورية، كان الرجل واضحا في التحذير من فقد التوازن في ممارسة
الحياة السياسية وفي العلاقة بين السلطات، التنفيذية والتشريعية والقضائية، وكانت
المحاولة لتقديم ما قد يصح أن أسميه بالحل الوسط التاريخي لمعضلة المدة الرئاسية،
التي أرى أنها في الصياغة القائمة وعلى ضوء ما يجري على أرض الواقع ليست سليمة،
وأرى في الوقت نفسه أن محاولات البعض لاتخاذ حتمية تعديلها فرصة لجعلها "سداح
مداح"، ليست سليمة بل وكارثية، وقد رأى الدكتور غنيم أن يتم تعديل المادة 140
إلى ما نصه: "ينتخب رئيس الجمهورية لمدة خمس سنوات ميلادية ولا يجوز أن يتولى
الرئاسة لأكثر من مدتين متتاليتين"، وتنص المادة الانتقالية على: "يجوز
تطبيق المادة 140 المعدلة اعتبارا من تاريخ بدء الولاية الأولى للرئيس
الحالي"، وقد استندت وجهة نظر الدكتور غنيم في تحديد مدة الرئاسة بخمس سنوات،
على أنه عدد السنين نفسه لعضو مجلس البرلمان.. وإذا جاز لي أن أقترح طالما أنها
مناقشة مفتوحة، فإنني أرى أن يبقى النص على أنه لا يجوز أن يتولى الشخص الرئاسة
لأكثر من مدتين متتاليتين، ولكن تكون المدة ست سنوات وتطبق على الرئيس الحالي
اعتبارا من تاريخ بدء ولايته الأولى، أي أن يضاف للرئيس الحالي أربع سنوات بعد
انتهاء المدة الحالية.. وكأنه تولى ثلاث مدد وفق الدستور الحالي قبل تعديله.. إنني
أظن أن مربط الفرس في كل هذا السياق الممتد منذ بداية العصر الجمهوري، هو الخلاف
حول المدى الزمني الذي يلزم لمتخذ القرار، حتى يتمم المشروع الذي أعلن عزمه على
تنفيذه وتمكينه من السيطرة الكاملة على زمام الأمور، لتصبح كل سلطات الدولة
ومؤسساتها مجندة لذلك الإتمام، وهنا قد يبرز سؤال محدد هو: هل يملك أحد شجاعة
الإعلان وبصراحة وفصاحة عن أنه لا مانع من فترة لحكم يماثل حكم فرانكو في إسبانيا
للخروج مما نحن فيه، وبعدها يتم تسليم البلد لمعادلة الديمقراطية بالمضمون
الليبرالي لها؟!
نشرت
في جريدة المصري اليوم بتاريخ 20 مارس 2019.
No comments:
Post a Comment