أعلم أنه كلام مكرر.. كما أعلم أن آفة
الوطن الآن، ومن قبل، هي قدرة الجميع على التشخيص والبراعة في وصف الأمراض
والأعراض، وجرأة البعض على تقديم العلاج الذي غالبًا- أو في كل الأحوال- يأتي
بطريقة الوصفات إياها، التي بدأت بشربة الحاج محمود التي تعالج الصداع وتقضي على
الدود، تلك الشربة التي كان يقف باعتها في أركان الميادين العامة وفي ساحات موالد
الأولياء.. ومع ذلك سأغامر وأكتب، فربما تأتي التساهيل ببعض الجديد!
كلامي عن حادث السكة الحديد، الذي جاء
لأجد فيه إجابة عن تساؤل كان يشغل ذهني كلما نزلت من القطار قادمًا من طنطا أو
الإسكندرية، وأشاهد المصدات الخرسانية في نهاية الرصيف، فأتساءل بيني وبين نفسي:
إلى أي مدى تتحمل هذه المصدات ارتطام قطار بها؟ ولم يخطر على بالي أيضًا أن أحدد
السرعة التي سيرتطم بها القطار، إذ لم أتخيل أن يدخل قطار ما المحطة بسرعة 80
كيلومترًا!
وفي هذا السياق أنشر ما أرسله لي
الصديق المهندس منير عياد، وهو كلام خبري، أي يحتمل الصواب والخطأ، ولا أعرف مدى
ما فيه من صواب، وهو بدوره- أي منير- تلقاه من السيد إميل عطا الله، مدرب سائقي
السكك الحديدية في نيوساوث ويلز لأكثر من عشرين عاما:
"الكارثة التي حدثت في باب الحديد
برمسيس عليها علامة استفهام كبيرة جدا جدا، ١- أي قطار داخل على نهاية مصد حديدي
أو خرساني، يعني أن القطار لا بد أن تكون سرعته ٢٥ كم/س قبل ٥٠٠ متر من المصد،
وإلا يفقد هواء الفرامل ويكون وقوفه اضطراريا. ٢- سرعة القطار عندما يلامس بداية
الرصيف ذي الـ١٦٠ مترًا فما فوق لا بد أن تنخفض إلى ٥ كم/س وإلا المصدات الأرضية
تفرغه من الهواء ويقف فورًا وبأقل من ثلاث ثوانٍ. ٣- كلما اقترب القطار إلى المصد
تقل السرعة كل ٣٠ مترا حتى تنعدم إجباريًا عند المصد، وإلا يتعرض للإيقاف
الاضطراري الذي يؤدي لوقوفه بعيدا عن المصد بما لا يقل عن ٢٠- ٤٠ مترًا. ٤- حتى لو
ضربت مصدات القطار المصد الأرضي فهناك زنبرك يتحمل ضغوطًا رهيبة كفيلة بجعل الوقوف
أكثر نعومة وغير مؤثر.
ما حدث معناه تتابع متسلسل لكمية من
الفشل رهيبة، ومنها: ١- عدم وجود (safety feature) ولو سقطت واحدة من هذه الأساسيات يمنع دخول
القطار أو القاطرة للخدمة. ٢- عدد أنظمة الأمان في القطارات القديمة ثلاثة وهي ( dead man feature- control governor
-main blunger)،
بينما في القطارات الحديثة هناك أربعة أنظمة، مما يجعل أمر هذا الحادث شبه مستحيل،
واحتماله لا يزيد على صفر بالمائة. ٣- حتى لو كان السائق نائمًا أو مات أو تحت
مخدر فإن القطار بنفسه سيقف بمجرد أن السائق عضلاته ترتخي، ولهذا فإنني لا أعول
كثيرا على السائق، إلا إذا كان هناك احتمال مر جدا سأسرده فيما بعد ٤- حتى لو
فرضنا أن القطار نفسه- من تحكم هوائيات وكهرباء وقوى- فشل فشلا ذريعا فإن شبكة
التحكم الأرضية من باكم الهواء الملاصقة للقضبان ستوقفه لا محالة مجرد تجاوز
السرعة القانونية والتي تحدد بالتدريج لتصل إلى ٣- ٥ كم/س، وحتى لو فرض أن القطار
فشل، ونظام تحكم القضبان فشل، فالذي لا يمكن أن يفشل هو نظام تحكم الإشارات،
فالإشارة لا تسمح للقطار بالتخطي إلا إذا كانت السرعة قريبة جدا من القانونية في
السرعات العالية على الخطوط الرئيسية، وتنخفض على خطوط الضواحي، وهكذا على خطوط
المحلي.
الخلاصة: ثم تصبح ٢٥ كم/س في حالة
الاقتراب إلى مصد نهائي (dead end)
ما حدث هو منظومة فشل متكاملة للآتي:
١- نظام القطار نفسه (من ثلاثة أو أربعة
أنظمة أمان).
٢- نظام الخطوط (من عدد لا نهائي ولا يمكن
حصره من وحدات الأمان الملاصقة على يسار أو يمين القضبان) حسب وجود الباكم.
٣- نظام الإشارات كل إشارة مزودة
بوحدة أمان.
إذا فشل نظام واحد مما سبق فمعناه
أننا أمام كارثة لا يمكن ترجمتها إلا على الآتي:
(اتفاق من السائق بتعطيل كل أجهزة
القطار الأمنية مع عامل التحويلات الأرضية على إفسادها وموافقة كشك الإشارات أو
كمبيوتر الإشارات والموافقة على تجاوز الإشارة المغلقة بالتزامن مع إفساد منظومة
الأمان المرتبطة بالإشارة، وهذه لوحدها تحتاج إلى مجهود مبذول ومتفق عليه مسبقا
وهو كبير جدا".
انتهت الجملة الخبرية ليثور التساؤل
الأكبر.
وللحديث صلة.
نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 7 مارس
2019.
No comments:
Post a Comment