أستمتع بين حين وبين آخر بمطالعة كتاب
"قوانين الدواوين"، الذي كتبه الأسعد بن مماتي، وزير صلاح الدين
الأيوبي، وزميل بهاء الدين قراقوش وزير صلاح الدين أيضا، واسمه الحقيقي "أبو
سعيد قراقوش بن عبد الله الأسدي"، ومعنى قراقوش بالتركية الشائعة آنذاك
"النسر الأسود"، حيث معنى "قوش" نسر.. ومعنى "قرا"
أسود.. وله سيرة طويلة فيها عكس ما شاع عنه.
كتاب الأسعد بن مماتي يحوي مادة خصبة
عن مدن مصر وقراها ومواردها ومحاصيلها وغير ذلك في العصر الأيوبي، وربما تكون
حاشية الكتاب أو بالمصطلحات الحديثة هوامشه Footnotes أهم بكثير من المتن الذي كتبه ابن مماتي..
ولذلك أركز كثيرا في تلك الحاشية وأترحم على رجلين، أولهما الأمير عمر طوسون
وثانيهما الأستاذ الدكتور عزيز سوريال عطية.. الأول هو من كلف الثاني بتحقيق
الكتاب، فجاء التحقيق عملًا علميًا نموذجيًا من طراز منهجي ومعرفي رفيع.. وكان من
حظي الطيب أن أزور ولاية يوتا الأمريكية خلال الرحلة الطويلة التي تنقلت فيها
بالسيارة بصحبة صهري وصديقي جابر حجازي وزوجته وزوجتي، وبدأت المسيرة من مدينة
صغيرة في ولاية كولومبيا البريطانية في الغرب الكندي اسمها الضفة الغربية، بالقرب
من مدينتي فانكوفر وكيلونا، ثم إلى ولايات واشنطن ومونتانا وايداهو ويوتا، ثم
نيفادا وأريزونا وكاليفورنيا ثم إلى المكسيك والعودة إلى كندا مرورا بأوريجون.
وفي يوتا جامعة تضع صورة بالحجم
الطبيعي للعلامة عزيز سوريال عطية، الذي كان أستاذا للعصور الوسطى بجامعة
الإسكندرية، ثم ارتحل إلى يوتا ليعترف الأمريكان بفضله غير المحدود.. وكان من حظي
أيضا أن أطالع بين حين وآخر الموسوعة القبطية التي وضعها العزيز عزيز، وكلما جاء
اسم الرجل تذكرت الأمير عمر طوسون وترحمت عليه! حتى جاءت مئوية ثورة 1919 لتنال ما
تستحقه نسبيا من احتفاء واحتفال، لأنها في نظري تستحق الأكثر الذي يتجاوز سطحها
وما لمع فيه من أنجم السياسة إلى عمق مسارها والدروس التاريخية المستفادة منها..
وفي ذلك العمق هناك الجموع الشعبية ورموزها من أولاد البلد.. وهناك أيضا بعض أبناء
الأسرة العلوية الحاكمة من الأمراء والنبلاء، الذين تمكنت فيهم مصريتهم فلم
يترددوا عن المشاركة في الكفاح من أجل الاستقلال والبناء.
ومما قرأته وتابعته أجد أن الأمير عمر
طوسون بقي إلى الآن مغبون الحق، سواء فيما يتعلق بدوره الوطني أو ما يتصل بجهوده
العلمية والاجتماعية. وأيا كانت الأسباب من وراء هذا الغبن الذي أظنه قد بدأ منذ
أن كان فؤاد سلطانا- أي قبل أن يحمل لقب الملك- وكان يخشى منافسة عمر طوسون له،
فصادر حركته وضيّق عليه الخناق، فإن الواجب الوطني عدا عن الالتزام العلمي
والأخلاقي يقضيان بإنصاف الرجل ومعه كل من على شاكلته من المنتسبين أسريا للعائلة
العلوية، ولكن انتسابهم وانتماءهم لمصر كان على المستوى نفسه إن لم يكن أقوى
وأعمق.
تقول الروايات التاريخية الموثقة
والموثوقة إن صاحب فكرة تأليف وفد مصري للمطالبة باستقلال مصر كان هو الأمير عمر
طوسون الذي لم يكتف بالفكرة وإنما ناقشها مع آخرين منهم سعد زغلول، وأيضا تحرك
فعليا من أجل تنفيذها.. ورغم ما واجهه من ضغوط أبعدته عن المسألة إلا أنه ومعه
مجموعة من الأمراء لم يتوقفوا عن استمرار السعي في سبيل استقلال مصر والسودان
وتأسيس حياة سياسية سليمة.. وفي هذا السياق تذكر أسماء الأمراء كمال الدين حسين
ومحمد علي إبراهيم ويوسف كمال وإسماعيل داود ومنصور داود.. بل إن القائمة يضاف
إليها آخرون من الأمراء عندما تصدوا بالرد على تصريحات واحد منهم، هو الأمير
إبراهيم حلمي لجريدة "التيمس" البريطانية واعتبروها إهانة لمصر
والمصريين، وتضمنت قائمة الموقعين على استنكار تصريحات ذلك الأمير أسماء: كمال
الدين حسين وعمر طوسون وعزيز حسين وعلي فاضل وعثمان فاضل ويوسف كمال وإسماعيل داود
وعباس إبراهيم حليم ومنصور دواد وعادل طوسون وعمر حليم وسعيد داود ومحمد علي
إبراهيم وسعيد طوسون وحسن طوسون.
ويحكي عمر طوسون في كتيبه الذي يحمل
عنوان هو "مذكرة بما صدر عنا منذ فجر الحركة الوطنية من سنة 1918 إلى سنة
1928" وقائع مسألة تشكيل وفد مصري، فيذكر أنها خطرت بباله بعدما صرح الدكتور
ولسن رئيس جمهورية الولايات المتحدة بمبادئه الأربعة عشر المشهورة في 8 يناير
1918، وأنه تكلم أول الأمر مع المرحوم محمد سعيد باشا في شأنها، فاقترح عليه أن
يتكلم فيها مع المرحوم سعد زغلول باشا لشخصيته البارزة في الهيئة الاجتماعية وفي
الجمعية التشريعية.. ثم يذكر كيف لم يتمكن من مقابلة سعد إلا يوم 9 أكتوبر 1918 في
حفل أقامه رشدي باشا بكازينو سان ستيفانو بالإسكندرية احتفالا بعيد جلوس الملك
فؤاد، وفي اللقاء ذكر عمر طوسون لسعد زغلول قرب انتهاء الحرب العالمية وانعقاد
مؤتمر الصلح، وأنه يحسن بمصر أن تفكر في إرسال وفد للمطالبة بحقوقها أمام هذا
المؤتمر، فاستحسن سعد الفكرة ووعد بالتكلم فيها مع أصدقائه عند عودته للقاهرة وأنه
سيخبره بالنتيجة.
ثم يذكر الأمير المغبون عمر طوسون
وقائع أخرى، يشتم منها أن سعدا قام بمناورة ما لإبعاد الأمير، وللحديث صلة.
نشرت في
جريدة المصري اليوم بتاريخ 27 مارس 2019.
No comments:
Post a Comment