Thursday, 20 June 2019

شهادة عن 30 يونيو





ليس استباقًا لما سيتم مستقبلًا من دراسات تاريخية حول ثورة 30 يونيو ومن قبلها ثورة 25 يناير، ومن قبلهما الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. والأوضاع الإقليمية والدولية.. والأبعاد الفكرية والثقافية، التي عاشتها مصر وأدت إلى ثورتين بهذا الحجم، ولكنه شهادة من أحد شهود الحقبة، لديه حد أدنى من الوعي والثقافة، وشاءت ظروفه أن يكون مشاركًا بدور ما، قد يختلف على حجمه وتأثيره في الفعل السياسي والثقافي المصري، في الفترة من 1968 إلى 2019، تاريخ كتابة هذه السطور. وغني عن التوضيح أن شهادات الأحياء المعاصرين والمشاركين والمراقبين للأحداث تعد أحد المصادر التي يعتمد عليها دارسو التاريخ، شريطة أن يخضعوها للمنهج العلمي الذي يحدد قواعد التعامل مع "المذكرات والشهادات الشفهية"، ويخضعها للنقد من داخلها ومن خارجها، حتى يمكن تحري الحقيقة التي هي دائمًا نسبية في العلوم الإنسانية. ثم إن ثمة أمورًا يجب أن تتوافر للشاهد، منها أن يكون سليم العقل، حاضر الذاكرة، لا تختلط في ذهنه- ومن ثم حديثه أو كتابته- الوقائع والتواريخ، وأن يكون حائزًا لما يثبت ما يذهب إليه، سواء بوثائق أو شهادات لآخرين، إلى آخر ما هو مشترك بين قواعد "الجرح والتعديل"، التي ارتبط بها البحث في الأحاديث النبوية رواية وتسجيلا، وبين الأدوات المنهجية التي أرساها علماء مناهج البحث.

وربما تبدأ الشهادة بالتفصيل في المقدمات والمسارات، وما قد يكون خاصا بالشاهد، حيث قاده تكوينه ومنهجه وقدرته على التحليل إلى التقاط نقاط بعينها رآها متفردة متوهجة.. ورأى غيرها مرتبطًا بأحداث أخرى أو مشابهًا لما حدث في مراحل سابقة.

كانت المقدمات المباشرة للثلاثين من يونيو، هي تمكن القوى التي خططت لما يسمى بـ"الربيع العربي" من تنفيذ ما رتبت له، والتقت فيها إرادة رئيسية هي الإرادة الأمريكية مع إرادات أخرى داخلية، هي القوى السياسية ذات المرجعية الدينية والقوى المتوزعة بين ما سمي ناشطين سياسيين من أرضية يسارية عدمية، وآخرين من أرضية الرفض العنيف المتخذ من العنف الدموي منهجًا ومسلكًا، وكان المحيط الذي لعبت فيه هذه القوى دورها الممنهج هو جماهير الشارع المصري والنخب التي كانت قد وصلت إلى الاختلاف الجذري مع حكم مبارك، وفور أن حانت لحظة مغادرة النظام للمسرح السياسي لم يسدل الستار وإنما صعد إلى المسرح- وعلى الفور- من كانوا جاهزين ومعدين للسيناريوهات وللديكورات وللخدع وللإخراج، وأعني بهم الإخوان المسلمين، وأظن أن وقتًا سيأتي تتم فيه دراسة الظاهرة مكتملة برمتها.. ولم يكن واردًا- بحال من الأحوال- خاصة في مصر بتكوينها وتاريخها ألا يتم التصدي لما حدث، وكان المنهج الفريد الذي اتبعته القوى المدركة لخطورة ما جرى هو امتصاص الصدمة، وتلقي الضربة الأولى والعكوف على كيفية إدارة الأمر، لتوجيه الضربة المضادة من حيث التوقيت والأسلحة المستخدمة ماديًا ومعنويًا والقوى المشاركة في المعركة، ودراسة كل الاحتمالات، وكيفية التعامل معها.. وكانت "تمرد".. وكان الدور الجوهري الحاسم للقوات المسلحة وقيادتها.

ولأن أي شاهد من البشر لا يمكن له أن يعزل ذاته عن شهادته، بمعنى أنه لا بد من الانحياز، مهما كانت درجة تحري الموضوعية، فإنني لا أنكر أنني شاهد منحاز للثلاثين من يونيو ولقيادتها، ولا أنكر أيضا أن متابعتي المباشرة لما يجرى في مصر والمنطقة والعالم وبحكم المهنة أيضا تجعلني أقول ما يلي:

أولا: إن مجرد تخليص مصر من حكم وتسلط وفلسفة ومنهج الإخوان المسلمين، يكفي لأن ينحاز من هم مثلي ممن عايشوا الحياة السياسية المصرية بوعي وبمشاركة منذ ستينيات القرن الماضي إلى الآن إلى تلك الثورة، ولا بد في هذا الإطار من التنويه إلى أن الإخوان بعد تولي الحكم أعدوا ما استطاعوا من تدابير، كي يستمروا على العرش لخمسة قرون على الأقل، مثلما قال خيرت الشاطر.

ثانيًا: إن مجرد قدرة من قاد مصر بعد الإخوان على التعامل مع ظروف داخلية منهارة، ومع ظروف إقليمية مشتعلة ومعادية، ومع ظروف دولية معادية ومتواطئة في السيناريو الأصلي قبل يناير، يكفي هو الآخر لتدعيم هذا الانحياز، وكم أود أن أجد نفسي في فريق عمل يضم باحثين وعلماء، وبعيدا عن الدوائر الرسمية، لتوثيق ودراسة الظروف التي أحاطت بثورة يونيو داخليا وإقليميا ودوليا.

ثالثًا: إن ما تم من إنجازات اكتملت بالفعل في مجال بناء جيش وطني قوي، ومجال البنية الأساسية، من طرق برية وبحرية وموانئ بحرية وجوية، ومجال الخدمات في الصحة والتعليم والتموين والعناية بالتجمعات الأكثر فقرا والقضاء على العشوائيات وتعظيم قدرات بعض المؤسسات الاستراتيجية، كالترسانة البحرية وغيرها، ثم تصدي القوات المسلحة للإشراف على المشروعات من حيث توقيتات الإنجاز وجودة التنفيذ ومنع الفساد وغير ذلك الكثير، هو أيضا حافز على الانحياز.

رابعا: إن الانحياز لا يعني غض الطرف أو طمس البصيرة عن النواقص والسلبيات، وهي بحكم عشرات العوامل ليست من صنع 30 يونيو فكرا وتطبيقا وقيادة، وإنما هي معطيات واقعية تعرفها مصر عبر العصور ووارد أن مواجهتها وعلاجها لم يكونا حتى الآن على الوجه الأمثل، ويمكن لمن يريد أن يتصيد التقاط ما يريد، ولكن الأصل هو أن يبحث المرء عن السلبيات وتقصي أسبابها وعوامل استمرارها وظروف استفحالها، وأن يكبد عقله عناء المساهمة في سبل القضاء عليها أو التخفيف من آثارها.

تحية خالصة للشعب الذي خرج بالملايين مصممًا على رفض وعلى إسقاط حكم المرشد.. وتحية للشباب الذين أبدعوا الوسيلة التنظيمية لتحويل الزخم الجماهيري إلى وثيقة توثق إرادة الناس.. وتحية للبواسل من قادة وضباط وصف وجنود القوات المسلحة الذين أدركوا حجم وعمق الخطر، ولم يتخلوا عن وطنهم مع إدراكهم أن الثمن فادح، بما في ذلك أرواحهم الغالية نفسها، إذا لم يكن التقدير والتنفيذ سليمين.

إن ثورة يونيو ما زالت مستمرة تمضي بثبات من أجل رفاهية وعزة وقوة هذا الوطن.. أشهد بذلك وأبصم بالعشرة.

نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 20 يونيو 2019.

No comments:

Post a Comment