كل سنة وحضراتكم طيبون
وفي أتم صحة وأسعد حال بمناسبة عيد الفطر، وعلى أمل أن تكون كل الحركات والسكنات
والكلمات إضافة إلى ميزان الحسنات، وإن شاء الله يستحق هذا العيد أن نردد فيه
كلمات الفذ أحمد رامي: يا ليلة العيد آنستينا.. وجددت الأمل فينا/ هلالك هل
لعينينا.. فرحنا له وغنينا/ وقلنا السعد حيجينا... على قدومك يا ليلة العيد/ جمعت
الأنس ع الخلان.. ودار الكاس على الندمان/ وغنى الطير على الأغصان.. يحيي الفجر
ليلة العيد!!
وأن ننسى لو مؤقتا ما
درجنا على ترديده كل عيد طيلة أعوام كثيرة تبدو بلا حصر قول المتنبي: عيد بأية حال
عدت يا عيد... بما مضى أم بأمر فيك تجديد/ أما الأحبة فالبيداء دونهم.. فليت دونك
بيدا دونها بيد، إلى أن يقول: يا ساقيي أخمر في كؤوسكما.. أم في كؤوسكما هم
وتسهيد؟!/ أصخرة أنا، مالي لا تحركني.. هذي المدام ولا هذي الأغاريد؟!!
ثم إنني لحسن حظي آنست
في الحي كتابا فيه نار ونور، فمكثت عليه لعلي أجد هداي، وكان أن وجدت بعضا غير هين
منه، ولأنه نور فإنه يستعصي على القياس فلا أملك أن أعمد إلى أفعل التفضيل لأقول
إنه من أحسن أو أفضل أو أقوى ما قرأت، ولا أملك أن أتجه إلى معايير النقد المتعارف
عليها عند التعامل مع النصوص، لأنني ممن حاولوا مبكراً أن يدركوا الفرق بين الضوء
وبين النور، ووجدت أن الأول- أي الضوء- يقاس "بالفولت والأمبير" والشدة
والخفوت وغير ذلك، أما الثاني- وهو النور- فلا مجال إلا أن يغمرك ويتخللك وتعيشه
غارقا فيه تتنفسه ومع كل نفس تتلاشى المسافات والحواجز والنتوءات بينك وبين غاية
تحققك الإنساني.
في كتاب عالم اليقين
جاءت حروف سناء البيسي نوراً، يدركه المتذوقون في لحظة إدراكه لهم، وقد يدور من
حولها المستعقلون دون أن يقتربوا خشية أن يلفحهم لهيبها المتأجج!، وكنت طيلة رمضاء
رمضان أقرب إلى عصفور يستزيد من جفنة الماء كلما استبد به القيظ.
ستمائة وخمسون صفحة،
تحوي اثنى عشر فصلاً، والفصول أوراد يحوي كل ورد منها سراً إنسانياً فصيحاً لا
غموض فيه.. وقد يحق لسائل أن يسأل كيف يكون السر فصيحاً لا غموض فيه؟!، وتأتي
الإجابة من سناء كلمات سناء: "فروا إلى الله.. فروا منه إليه.. الفرار إلى
الله يعني توحيده وتمجيده والتخلي في سبيله عن شهوات النفس وأهوائها، وفي ذلك أعلى
مراحل التدين والعبادة" هل رأيت إذن كيف يكون الفرار اقترابا وقربى؟!!
وربما لأنني عشت في
طنطا، صباي وشبابي المبكر ومازلت أذهب لأروي خلاياي التي كم هددها الجفاف، فأسير
في الدروب "درب الأثر.. درب الأبشيهي.." وفي الشوارع "سعد الدين..
والحكيم.. وماهر.. والنحاس.. والقاضي وعثمان محمد والمدارس..".. وفي الحواري
وهي بغير حصر، وأصعد طالعا باتجاه شيخ العرب، فإنني لبثت طويلا أقتبس من نور الورد
السنائي المسمى "الله الله يا بدوي" ضمن الفصل المعنون
"المفكرون".. وكدت أترنم بصوت مسموع ما كانت عيناي تعكس نوره:
"والتصوف صدق التوجه إلى الله وعدم الافتتان والاستعلاء بما تأتيه من عبادة
ونسك مما يهب صاحبه البصيرة.. والبصيرة ما خلصك من الحيرة.. والبصيرة تهب
الفراسة.. والفراسة نور من الله يشع به القلب"، وفي ذلك يقول الرسول صلى الله
عليه وسلم: "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله"!
والتصوف في الروح وجوهر
الضمير ونور العقل، صاغ له أساتذته وشيوخه فلسفة ومناهج ومراحل ومنازل ومقامات وكل
من كان أصلح عملاً كان أعلى مقاماً.. وعذوبة التعبير في التصوف تأتي في منهاجه:
"خل نفسك وتعال.. تأتي لتكون منهاجاً وعظة ودليلا وسلوكا وسفراً إلى الله..
وفي درب التصوف من ذاق عرف.." إلى آخر ما سكبت سناء البيسي في سبيكتها
النورانية!
وكما أسلفت فلست بصدد
سجن النور في قلاع حرفة عرض الكتب ونقد النصوص وشرح المتون، وما استطعته هو
الإشارة إلى ما تذوقته.. وفي التذوق تكفي "لحسة" واحدة من الإناء،
وكثيراً ما أدت "اللحسة" الواحدة إلى الفرار، فرار الاقتراب والتوحد
والانخلاع من البشرية!
وأختتم بما حدث صدفة،
إذ كنت أقرأ قراءة مزدوجة أتنقل فيها بين سناء سناء، وبين تجليات "ميشيل
شودكيفيتش" في كتابه "الولاية" الذي ترجمه الدكتور أحمد الطيب، شيخ
الأزهر، والكتاب شرح واف ومخيف لبعض نصوص الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي.. وذلك
حديث آخر.
كل عام وأنتم بخير.
نشرت
في جريدة المصري اليوم بتاريخ 5 يونيو 2019.
No comments:
Post a Comment