كأنها موجات من زفير التنهد والارتياح
تأتي تعليقات غالبية من يتفضلون بالتعقيب على ما أكتبه من ذكريات تتصل بالقرية
والموالد والسجون وغيرها من مجالات بعيدة عن التناول السياسي المباشر للأحداث،
ويبدو أن شريحة المثقفين والمهتمين بالقراءة قد أصابها الزهق والضجر والملل مما
يعرض في المجال السياسي خاصة ومجال الاختلافات والتراشقات، التي يحرص بعض من
يقترفون الكتابة على البقاء في مستنقعها.. ولذلك يبقى الكاتب في حيرة من أمره،
لأنه إذا تجاهل الأحداث الجارية والمتغيرات المحلية والإقليمية والدولية، وإذا
ابتعد عن الاشتباك لدحض باطل يزيف تاريخًا أو يخفي حقيقة، فقد يقال إنه ممن صاروا
يؤثرون السلامة وأضحى ممن يهربون من تحمل مسؤولية اتخاذ موقف واضح مما يجرى،
ويناله من الاستهجان ما قد تكون صيغته بالبلدي: "شوف والنبي.. فلان سايب
الدنيا تضرب تقلب ومتعامي عن الأحداث الساخنة وقاعد يتكلم عن الغيط والدار
والفلاحين وغيره"! أما إذا انغمس في الشأن العام وواصل الاهتمام بما يحدث؛
يحلله ويفسره ويعلن موقفه منه، قيل: "كفاية سياسة.. لعن الله ساس ويسوس وما
اشتق منها.. كل الكتابة تشبه بعضها ولا أحد عنده من المعلومات الموثوقة ما يجعل
رأيه وتحليله هو الأصوب.. وكل يغني على ليلاه ويسعى لتجيير الأحداث لصالح معتقداته
وتوجهاته الفكرية والسياسية"! ولذلك فإن الكاتب يلجأ أحيانا إلى أسلوب
التورية والإسقاط، بحيث يتخذ من مادة تاريخية أو ذكريات ذاتية أو كتابة خفيفة
ساخرة ومضحكة وسطًا حاملًا لوجهة نظره تجاه الوضع السياسي القائم! وفي هذا تأتي
سيرة المرأة التي دخلت على هارون الرشيد وعنده أصحابه، فقالت له: "يا أمير
المؤمنين أقر الله عينك، وفرحك بما آتاك وأتم سعدك، لقد حكمت فقسطت" ثم سكتت،
وظن أصحاب الرشيد أنه ارتاح وابتهج لما قالت، وإذا به يسألهم عما قالت، فقالوا: ما
نراها إلا خيرًا، فقال الرشيد: ما أظنكم فهمتهم، وبدأ يشرح: أما قولها أقرّ الله
عينك فمعناها أسكنها.. وإذا سكنت العين عن الحركة عميت! وأما قولها: وفرّحك بما
آتاك فقد أخذته من قوله تعالى: "حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة"!
وأما قولها: وأتم سعدك فأخذته من قول الشاعر: إذا تم أمر بدا نقصه ** ترقب زوالا
إذا قيل تم! وأما قولها: حكمت فقسطت فمعناها حكمت فجُرت وأخذته من قوله تعالى:
"وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبًا"! ثم التفت إليها الرشيد وقال لها:
ممن المرأة؟! فقالت: ممن قتلت رجالهم وأخذت أموالهم! فقال لها: أما الرجال فقد مضى
فيهم أمر الله، وأما الأموال فمردودة إليك"!
ولو أن كل من يكتبون في فترة من
الفترات لجأوا لمثل هذا الأسلوب لأصبح الأمر شديد العسر على من يراقبون ما يكتب
ويتابعون ما ينشر، وهنا كثيرًا ما أتذكر النكتة التي كان يحلو للعم الساخر محمود
السعدني ترديدها بين حين وآخر، وتحكي عن المتهم الذي تقرر القبض عليه بتهمة توزيع
منشورات مضادة، وداهمته القوات وسحبوه من قفاه، ومع الصفع والركل والصياح صرخ
معترفًا ومشيرًا إلى المكان الذي يخزن فيه الأوراق، وفتحوا المكان فإذا بالرزم
مكدسة، ورزمة بعد رزمة وورقة بعد ورقة وجدوها جميعا ورقًا أبيض خاليًا من الكتابة،
فظنوا أنه الحبر السري، واستدعي المختصون من المعامل المتخصصة، فإذا بهم يؤكدون
أنها بيضاء فعلًا ولا كتابة فيها، فلما سألوه أكد أن هذه هي المنشورات وأنه يوزعها
بيضاء من كثرة ما عنده من انتقادات، هيكتب إيه.. واللا إيه.. واللا إيه!
والعجيب في الظاهرة أنه قد يكون
واردًا في تناول الأوضاع القائمة في أي بلد استخدام أسلوب التورية والإسقاط،
ولكننا قد نصادف من يكتب بطريقة "التلئيح" التي لا تكتب بالقاف لأنها
ستحمل معنى آخر مغايرًا تمامًا، و"التلئيح" جزء من التراث الشعبي يزدهر
في الحارات والأزقة وله فنونه ونوادره، ومن أمثلته في صحافتنا الحالية أن يتم
التركيز- وعلى طول وباستمرار وفي كل الأوقات وبكل السبل- لتوصيل رسائل إلى أصحاب
القرار عبر التطاول- اللامتناهي في الوقت وفي المبالغة وفي الافتراء والتزييف- على
ثورة يوليو وعبد الناصر، دون أي انتباه إلى أن هذا اللون من الكتابة أصبح منتهي
الصلاحية يعني Expired..
لا يقبل على الاقتراب منه إلا من تعود عليه في كل حياته.. وأن من يروجه ويسوقه له
سمات خاصة.
وكما سبق ووعدت فإنني بصدد التفصيل في
ظاهرة "انتهاء الصلاحية" عبر مقالات مقبلة.
نشرت في
جريدة المصري اليوم بتاريخ 26 يونيو 2019.
No comments:
Post a Comment