Thursday 17 October 2019

الذين أزعجهم "الممر"!





في ظروف تاريخية ما، أظنها أصبحت معروفة ولها تفسيرها لدى الدارسين، تصبح الوطنية ومن ثم الخيانة وجهة نظر.. وحرية رأي، وهي ظروف عادة ما توصف بمراحل الاضمحلال التي يعز على البعض أن يسعى الوطن لإنهائها، منطلقًا نحو الانعتاق والتقدم، وترى أولئك البعض وهم يمتعضون من مبادئ وأفكار وممارسات عرفتها الأوطان خلال تطورها التاريخي، وخاصة في مراحل التحرر من الاستعمار القديم ومواجهة الاستعمار الجديد، ومراحل صعود فئات اجتماعية عريضة من وهاد الظلم والتخلف الاجتماعي، كما تراهم وتسمعهم وهم يستنكفون وصول أبناء البسطاء إلى مراحل تعليم عليا وتولي مواقع مرموقة، والأكثر دهشة أنك تراهم وتسمعهم وهم يترحمون على حقب بعينها، يزعمون أن آباءهم وأجدادهم كانوا من أعيانها ورموزها، وأن ما كان بها من احتلال وظلم اجتماعي وتخلف هو من سنن الكون ونواميس الخالق جل شأنه، وقد شاء حظي أن أجلس على طاولة في ناد اجتماعي يرتاده كثير من المحترمين وكثير أيضا ممن يصنفون أنفسهم أصحاب مال وأعمال وسلالة الباشوات.

وقبل أن أستطرد فإنني لا أعمم ولا أصدر أحكامًا قيمية، ولا أملك منح أو منع صكوك الوطنية والالتزام الإنساني، لأن من سلالات تمصر أجدادها وحازوا الثروات الطينية والعقارية والمالية وتولوا مراكز مرموقة هناك نماذج فذة للالتزام الوطني والسمو الأخلاقي والنبل الإنساني، ولكنني أتحدث عن حالات فاقعة الشذوذ الفكري والسياسي.

كنت على طاولة قريبة- بحكم جغرافيا المكان- من طاولات أخرى، كان يجلس على إحداها خليط من الذين يضعون "الأعمال" في بطاقات تعريفهم لأنفسهم، ومن أبناء "الأصول" إياهم الذين وجدوا في ظروف الاضمحلال مناخًا لممارسة الوطنية كوجهة نظر، ومن ثم فليس في قاموسهم شيء محدد عن تعريف الخيانة.

علا صوت الحوار، وبدأت الطراطيش الكلامية تتناثر فتصل لمسمعي رغم أنفي، ورغم أذني أيضًا، ومما سمعت تعليقات على فيلم "الممر"، الذي لم ينل إعجابهم، لأنه أولا أدى إلى "زعل" الإسرائيليين، و"إحنا ما صدقنا إن الأمور تمت تسويتها، وأصبح هناك صلح وتعايش وكنا نأمل في المزيد، خاصة بعد أن أفاقت الدول العربية وبدأت في إقامة علاقات مع إسرائيل علنًا".. والكلام الذي بين الأقواس ليس كلامي وإنما هو اقتباس مما سمعت صدفة في تلك الليلة.. ثم كانت الاستطرادات: "آه.. ممكن يبقى فيه أفلام وطنية بس لازم توجد طريقة معالجة لا تجعل الناس تتذكر الشعارات والكلام إياه بتاع عبد الناصر والشيوعيين"!

ثم كانت العبارات التي أظنها تجسيدًا لحكاية "الخيانة.. والوطنية وجهة نظر"! إذ نفث أحدهم دخانه وتنحنح حتى ينجلي صوته، وقال بالعامية ما ترجمته بلغة الصحف ما يلي: "نحن شعوب وأوطان قالوا عنها وهو مؤكد أنها منبتة للتخلف والطغيان وتحكمنا قيم وتقاليد وأفكار اختلط فيها التواكل بالإيمان بالفهلوة وغيره، ولذلك كان حلال فينا ما وصلنا إليه، وحلال فينا أن يحكمنا الغزاة المحترمون من أيام الفرس والإغريق والرومان، وبعدين الفرنساويين والبريطانيين، وليت إسرائيل كانت دخلت القاهرة وحكمتنا.. كان ممكنا ألا تكون لدينا مشكلة مياه ولا صحراء ولا تخلف في التعليم والصحة والري وغيره.. الشعوب زي الأفراد في مراحل عمرهم، حيث من يبقى قاصرا منتكسا في طفولته، أو من يبلغ به العمر أرذل المراحل فيصاب بنقص الإرادة وغيره فإنه يعين وصي عليه في حالة الطفولة.. ويحجر عليه في حالة الكهولة.. يعني في الحالتين هناك من يتحكم في حياته وقراره وثروته.. وعليه فكان الأفضل لنا بقاء اليهود وتمكين إسرائيل من السيادة على كل المنطقة.. ولذلك فإن الفيلم فيه انتكاس إلى مراحل الحنجوري التي أوصلتنا إلى كل الكوارث"!

هذا هو تفكيرهم لأن ما تبقى من كلام كان للتأكيد العملي على هذه الهرتلة الخيانية، لأن بعضهم تكلم عن استعانته بالإسرائيليين في الزراعة، وبعضهم تكلم عن الاتفاقية إياها الخاصة بقبول المنتج المصري من المنسوجات بشرط وجود نسبة مكون إسرائيلي، إلى آخر ما في تلك الجعبة الشوهاء من بضاعة أكثر تشوهًا!

لقد هالهم وأزعجهم نجاح فيلم الممر فكرة وإخراجا وتمثيلا وعرضا واسعا هائلا أقبلت عليه طوائف المصريين، من مختلف المستويات الاجتماعية والأعمار والمهن والمناطق الجغرافية، وأزعجهم أكثر وأكثر ما ظهر من عزم على تكرار التجربة بإنتاج أفلام مماثلة، تعالج بطولات هذا الشعب وقواته المسلحة وتنصف الفئات التي بذلت أقصى جهدها لخدمة المجهود الحربي.. من عمال وفلاحين ومهندسين وأطباء وفنيين وغيرهم، وحتى المجرمون الجنائيون كفوا عن جرائمهم خجلا! أما هؤلاء فلا تعرف حمرة الخجل لجلودهم طريقًا.

نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 17 أكتوبر 2019.

No comments:

Post a Comment