أطراف الواقعة أربعة
أشخاص: الرئيس جمال عبد الناصر والأستاذ أحمد أبو الفتح والأستاذ محمد حسنين هيكل،
وكان الرابع الغائب عن اللقاء هو الأستاذ محمود أبو الفتح.
تتلخص المقدمات،
وباختصار شديد، في أن آل أبو الفتح عرفوا الرئيس عبر مصاهرتهم لثروت عكاشة، الضابط
الحر، وأشهر وزير ثقافة، وأبرز من كتبوا في تاريخ الحضارة والفنون.
وكان محمود يملك جريدة
"المصري"، ويرأس تحريرها أحمد، الذي توثقت علاقته بالرئيس بحكم انتمائه-
الضمير عائد على أحمد- للطليعة الوفدية التي كانت حركة شبابية تقدمية على يسار
التيار الرئيسي لحزب الوفد، ثم تعرضت العلاقة لاهتزاز بسبب اختلافات سياسية
وذاتية، حيث كان ناصر يرى أن أي تعبير سياسي- خاصة الديمقراطية- انعكاس لحقائق
اجتماعية واقتصادية، وأن إقامة ديمقراطية سليمة في مصر تعبر عن رأي الأغلبية لا
تتأتى إلا إذا كانت الحقائق الاجتماعية والاقتصادية تعطي لهذه الأغلبية وزنها
وثقلها، وأن أي انتخابات- قبل إجراء تلك التغييرات الاجتماعية والاقتصادية- سيكون
من شأنها إعادة نفس العناصر القديمة، وكان رأي أحمد أبو الفتح مختلفًا، ويرى أن حل
مشكلة الديمقراطية هو بإجراء انتخابات فورًا، وكان ذلك منطقيًا مع موقفه وانتمائه
للوفد.. أما السبب الذاتي للاختلافات فهو- وفق ما ذهب إليه الأستاذ هيكل، حيث أنقل
معظم هذا المقال من كتابه بالغ الأهمية "لمصر لا لعبد الناصر"- يعود إلى
أن أحمد أبو الفتح ربما بالغ كثيرًا في درجة أهميته وعمق علاقته بقيادة الثورة،
الأمر الذي جعله أمام أسرته وأصدقائه وجماعته محرجًا عندما لم يستطع أن يحقق لهم
أشياء عجز عن تحقيقها، فتحول الحرج إلى عناد ثم إلى عداء، إضافة لذلك أن أحمد كان
شديد الوفاء والاحترام لشقيقه محمود، الذي ترك الصحافة وجريدة "المصري"
لأخيه أحمد وتفرغ لدوره كرجل أعمال، وكان الشقيق الأصغر يحس أن أخاه لا يأخذ حقه
كرجل أعمال، وأن فرصًا كثيرة ضاعت أو ضُيِّعت عليه، لأسباب لا يعرفها.
وهنا مربط الفرس، الذي
بسببه أكتب هذا المقال، وأنقل عن الأستاذ هيكل، الذي رجع للوثائق البريطانية أيضًا
كمصدر، إذ سبق وكتبت أن بعض الرأسماليين- ممن يسمون رجال أعمال- يضعون مصلحتهم قبل
مصلحة الوطن، أو على أقل تقدير يعتبرون أن مصلحتهم هي مصلحة الوطن، وسبق وكتبت أن
من يصل به لدد الخصومة مع نظام حكم قائم إلى أن يطلق عليه الرصاص "سياسيًا
وإعلاميًا ومعنويًا" تنطمس بصيرته ويكل بصره، فلا يدرك أن الرصاص يخترق جسد
الوطن.
وفي لقاء ضم الرئيس
ناصر وأحمد أبو الفتح وهيكل- وكان هو من تكفل بمجيء أبو الفتح من سويسرا للقاهرة،
وتكفل بسلامته حتى عودته إلى سويسرا- وكان الشاهد هو الدكتور سيد أبو النجا؛ فتحت
المناقشة، وإذا بأحمد أبو الفتح يثير مسألة ظلم أخيه "محمود بيه" وحصاره
كرجل أعمال، ويتحدث عن أن محمود تقدم لتوريد أوتوبيسات لوزارة الشؤون البلدية والقروية،
التي كان وزيرها عبد اللطيف البغدادي، إلا أن المناقصة رست على عبد اللطيف أبو
رجيلة، ثم تقدم لتوريد بنادق للجيش المصري فرفض عرضه أيضًا.. وإذا بالرئيس يشعر
بالضيق وشاع الأسف في نبرة صوته وهو يرد على أحمد أبو الفتح: "جرى إيه يا
أحمد.. أوتوبيسات إيه وبنادق إيه؟ ما دخلي أنا بأوتوبيس أو بندقية عاوز يبيعها
محمود أبو الفتح"؟!
عارض محمود نظام عبد
الناصر، وأوغل في لدد الخصومة عندما اصطدمت أو تعارضت مصالحه المالية والاقتصادية
مع البلد، فاتجه إلى العمل مع الأطراف الخارجية لتقويض النظام، وعمل على
استعدائها، فتعاون مع نوري السعيد الذي منحه صفقات ومشروعات، ووصل الأمر إلى أن
منحه الجنسية العراقية هو وأسرته.. ومعلوم موقف نوري السعيد وحلف بغداد من عبد
الناصر ومن مصر.. ثم تطور الأمر إلى أن يسعى محمود أبو الفتح للتعاون مع
البريطانيين ضد مصر، فأرسل خطابات لوزير خارجية ورئيس وزراء بريطانيا يعرض خدماته
وتعاونه مع بريطانيا في مواجهة النظام الموجود في مصر، وزعم- حسب الوثائق
البريطانية- أن لديه تحالفا مع النحاس باشا ومحمد نجيب، وأن لديه تنظيما عسكريا
يضم ضباطا في الجيش، وأن لديه تنظيما سياسيا أيضًا، ولم يأخذ البريطانيون كلامه
بالجدية الكافية، إلا أن من تبناه كان هو المخابرات العسكرية البريطانية، وذلك
لاقتراب عملية غزو مصر والعدوان الثلاثي عليها.. وكان محمود أبو الفتح قد راسل
أيزنهاور الرئيس الأمريكي أيضًا يوضح له ويشرح عن "الطغمة العسكرية الفاسدة
الموجودة في مصر".. ثم وصل الأمر إلى أن ينشئ أبو الفتح ومجموعة من المتفقين
معه في الخارج إذاعة لمهاجمة مصر ونظامها وللتعاون مع البريطانيين وغيرهم.
هكذا كان ما جرى منذ
أكثر من ستين عامًا.. وأكاد أرى حالة من الحالات النادرة التي يمكن أن تكسر قاعدة
"إن التاريخ لا يعيد نفسه".. لأننا نرى تاريخًا يعيد نفسه وإن اختلفت
الأسماء.. ولكن الأسلوب واحد والتحالفات متشابهة والأطراف الخارجية تكاد تكون
متطابقة، لأن تركيا كانت طرفًا في حلف بغداد المعادي لمصر ولعبد الناصر!
هكذا أيضًا يكون انطماس
البصائر وعمى الأبصار لدى الذين يضعون مصالحهم فوق كل اعتبار، بما في ذلك الوطن
ذاته.. إنه "الكومبرادور" الذي قرأنا عنه ولطالما شرحنا حوله في حلقات
مناقشات شبابنا المبكر، وهذا حديث آخر.
ورحم الله الأستاذ
الكبير محمد حسنين هيكل الذي لم يخض معركة إلا وأطرافها على قيد الحياة، وتسلح
دومًا بالوثائق والوقائع التي كان هو وآخرون طرفا فيها..
نشرت
في جريدة الأهرام بتاريخ 3 أكتوبر 2019.
No comments:
Post a Comment