Wednesday, 23 October 2019

من وحي زيارة أوروبية





أكتب من ميلانو بعد أن أمضيت عدة أيام في فرانكفورت قادما من القاهرة، وعلى باب الفندق الألماني فوجئت بمن يناديني مرحبا، وعرفت أنه الأستاذ الدكتور أحمد بهي الدين، أستاذ الأدب الشعبي في جامعة حلوان، الذي يعتز بأنه تلميذ صديقي الأستاذ الدكتور أحمد مرسي، وكم هو مبهج لأي إنسان- خاصة إذا كان من أهل الكلام كتابة وشفاهة مثلي- أن يصادفه من يشيد بكلامه، ثم عرفت أن الدكتور أحمد يحضر فعاليات معرض الكتاب كنائب لرئيس مجلس إدارة هيئة الكتاب، وسعيت لجولة سريعة في المعرض لا تكفي للكتابة الوافية عنه، والمهم أنني كعادتي أغرم بمعرفة أصل ما يصادفني من أسماء ومسميات لبشر وأماكن وأزمان وموضوعات، ومنها انشغالي بأصل أسماء عائلات مصرية لغويا وتاريخيا، فأجد العجب العجاب مما قد لا يرضي من يحملونها وعند الضرورة أجدني مخالفا- ولو جزئيا- الأمر بعدم التنابز بالألقاب، لأن العناد كما يقول الناس يعلم الكفر! وقد سعيت لأعرف أصل اسم فرانكفورت التي أستمتع بزيارتها ضمن استمتاعي بمحاولة المقارنة التاريخية بين تحرك قبائل الأستبس الأوروبية أو الرعاة الأوروبيين نحو الإمبراطورية الرومانية، وإسقاط روما في القرنين الخامس والسادس الميلاديين، وبين تحرك الرعاة العرب نحو مراكز الحضارات القديمة في العراق والشام ومصر، وكيف مضى التطور التاريخي على الجانبين، إذ لا نجد متباكيا الآن في المناطق التي غزاها القوط والواندال والجرمان، ومنهم الفرانك على سقوط روما وبلاد الغال التي تم تغيير اسمها ولغتها ومذهبها الديني، بينما لا يزال بيننا في مصر والشام مثلا من بقي متباكيا على ما كان قبل الغزو العربي أو الفتح، وتراه مثرثرا بسباب القادمين الرعاة من صحراء العرب.. وفي هذا تفاصيل كتبت عنها وسأجدد الكتابة.

لقد وجدت ضالتي في أصل فرانكفورت الواقعة على نهر "ماين" في وسط غرب ألمانيا، وحسب المعلومات السريعة في "ويكيبيديا" فإن مؤرخا تشيكيا هو "ديفيد غانس" يذهب إلى أن تسمية المدينة حوالي عام 146 بعد الميلاد بواسطة ملك إفرنجي "الإفرنج أو الفرانكس أحد فروع قبائل الجرمان"، يدعى "زونا" الذي حكم تلك المنطقة التي كانت تعرف باسم "سيكامبريون" وأراد ذلك الملك تخليد اسم ذريته، حيث اشتق الاسم من كلمة "Franconofurd" القبيلة الجرمانية الإفرنجية، ومن تلك المعلومة أجدني قد أضفت لما كان لدي من معلومات بحثت فيها منذ سنوات عندما كنت معنيا آنذاك بمناقشة ما كان يطرحه بعض المثقفين المعادين للفكرة العربية القومية والذين رأوا وما زالوا يرون في مجيء العرب لمصر غزوا صحراويا بشعا، أدى إلى معظم- إن لم يكن كل- السلبيات والنواقص التي أصابت المحروسة، وكان منهم الصديق العزيز الأستاذ أحمد عبد المعطي حجازي، وكان الآخر هو الأستاذ سيد القمني، وبالصدفة كان نقاشنا المحتدم كل على حدة في حديقة منزل الصديق العزيز الراحل الجميل منير لطيف بمصر الجديدة، وأذكر أنه في المرة التي ناقشت فيها الأستاذ حجازي فوجئت أنه يعترف بي مثقفا بعد أن كان يرى أنني مجرد صحفي تافه!

كانت معلوماتي الموثقة التي استندت للموسوعة البريطانية تتصل بتحرك القبائل الجرمانية، ومنها قبيلة "الفرانك" إلى أراضي الإمبراطورية الرومانية ووصل "الفرانك" بقيادة الملك كلوفيس الأول إلى بلاد الغال التي كانت تضم فرنسا وأجزاء من بلجيكا، وكان يسيطر عليها القوط الغربيون الذين دخلوا المسيحية على المذهب الأريوسي المصري – مذهب الطبيعة الواحدة البشرية – فغير اسم البلاد إلى فرنسا على اسم قبيلته وغير مذهبها إلى الكاثوليكية وغير لغتها إلى لغة قبيلته.. والمفارقة التاريخية هي أنه من سلالة هؤلاء الذين كانوا يسمون "المتبربرين"، جاءت أسرتان من أهم الأسر الملكية التي أثرت في تاريخ أوروبا بل تاريخ العالم، هما الأسرة "الميروفنجية" والأسرة "الكارولنجية" التي كان من ملوكها شارلمان العظيم الذي غير التاريخ السياسي في أوروبا وربما العالم، عندما رفض أن يضع البابا التاج على رأسه وفق القاعدة المتبعة من قبل، حيث كان البابا هو من يتوج الإمبراطور، أما شارلمان فهو من توج نفسه، إذ مد يديه وأخذ التاج من البابا ووضعه بنفسه على رأسه.. وهكذا فمن الأصول الجرمانية "المتبربرة" وفق ما كان يراه المواطنون الرومانيون الذين هالهم سقوط روما على يد تلك القبائل جاء ملوك أفذاذ، وتبين عمليا أن الأمم الحية هي من تتعامل مع تاريخها باعتباره حلقات متصلة متفاعلة كل حلقة تؤدي إلى ما بعدها دون أن تنفصل ما قبلها ولكل حلقة إيجابيات وسلبيات.. أما الذين ابتلانا بهم الدهر من المغرمين بسؤال "ماذا لو؟" فلن يرحمهم التاريخ، وذلك حديث آخر.

نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 23 أكتوبر 2019.

No comments:

Post a Comment