يكثر الكلام عن بعض الأحكام القضائية التي تصدر،
فلا يرحب بها كثيرون، ويرى غيرهم فيها أنها مناسبة، وأحيانا لا يطيق البعض أن
يصمتوا فتراهم يكتبون مبتدئين بديباجة تتكرر، إذ يؤكدون أنهم يحترمون أحكام القضاء
لأنها عنوان الحقيقة ولا يتدخلون في عمل القضاة.. ثم لكن! وبعد لكن تجد سيلا من
التدخل وفيضا من الأحكام التي تجود بها أدمغتهم!
ولذلك يصبح من الجائز عند عديدين أن يطلبوا تدخل
رئيس الجمهورية، وإذا لم يتدخل قيل إن هذه هي سمة المرحلة وطبيعة النظام، أي الصمت
تجاه تبرئة من اتهموا بتهم غليظة ثم نالوا براءة قضائية أو نالهم حكم مخفف، وإذا
تدخل قيل من أطراف أخرى: أين الفصل بين السلطات.. وأن هذه هي سمة النظم الشمولية
المستبدة وهلم جرا.
في هذا المقام وجدت وثيقة كانت لديّ منذ أيام
تنظيم طليعة الاشتراكيين، وطبعت بعد ذلك في عدة مراجع، والوثيقة تضم الحوار الذي
جرى بين الرئيس جمال عبد الناصر وبين المبعوثين المصريين الذين كانوا مبتعثين في
الخارج للدراسة، وكان اللقاء في قاعة اللجنة المركزية بمبنى الاتحاد الاشتراكي-
الذي صار مبنى الحزب الوطني واحترق في يناير 2011- وتم يوم 16 مايو 1970.
سئل الزعيم جمال عبد الناصر سؤالا مركبا حول
أوضاع البحث العلمي في مصر وعن الصراعات الدائرة في مجاله، ثم عن الطبقة الجديدة
التي نشأت في البلاد وتكسب عن طريق غير شريف، وطالب صاحب السؤال بأن يتم التعامل
مع هؤلاء المنحرفين بحسم أكثر وتعديل القوانين القائمة لتحقيق هذا الحسم.
وأجاب الرئيس إجابة ضافية عن الأمرين، موضحا ما
يجري في مسألة البحث العلمي، وساق مثلا عمليا باختلاف بين وزارة الزراعة وبين
وزارة البحث العلمي.. وانتقل به الرئيس عبد الناصر بعدها إلى مسألة الطبقة الجديدة
والانحراف، وهنا أقتبس حرفيا: "... أنت جيت قلت لي كلام، وقلت إن فيه ناس عن
طريق غير شريف بينحرفوا.. أنا عندي في هذا القوانين اتعملت.. ما هو إيه الطريق غير
الشريف.. اللي هو الرشوة، مش كده؟ هو ده الطريق غير الشريف.. أنا.. أي واحد بيتمسك
في قضية رشوة بيعتقل ويفصل وبعدين بيروح المحكمة.. طلع براءة.. أعمل إيه؟! لازم
أطلعه وأرجعه شغله وإلا أبقى ظالم الراجل.. أصل أنا كيف أكون حاكم.. كيف أحكم؟ كيف
أكون قاضي هذه الأمة؟ مقدرش أشتغل رئيس وقاضي.. وكل العمليات دي كلها أبدا.. أنا
عندي هنا القانون موجود.. الرشوة بياخد مؤبد.. الحقيقة عملنا القوانين صعبة جدا.. ولكن
أنا هنا لا أستطيع أن أحكم ولا أستطيع أن أقوم بوظيفة القاضي.. الحقيقة في الأول
لقيتهم بيروحوا النيابة بتحبسه أربعة أيام وبعدين بتجدد الحبس وبعدين يسيبوه لغاية
القضية ما تيجي.. قلت لأ.. يعتقل ويفصل.. وهنا الحقيقة بقى القضاء هو العملية
الأخيرة ولو إني تدخلت أنا وقعدت أحكم فلن أحكم إلا إذا كنت مقتنع مائة في
المائة.. ومقدرش اقتنع مائة في المائة إلا في حالات بسيطة جدا أو حالات معدودة..
بيقولوا إن في الجمارك فيه رشوة وإنكم لما بتجيبوا العربيات وانتم راجعين بيسهل
لكم الشغلانة بمائة جنيه أو خمسين جنيه وإلا إذا ما دفعتش ما تدخلش العربية.. ده
كلام بتسمعه أنت وأنا باسمعه أنا كمان.. طيب أعمل إيه؟! المباحث موجودة والمخابرات
موجودة وكل الدنيا عندها هذا الكلام.. لأن أنا باسمعه زي أنتم ما بتسمعوه بيمسكوا
الناس دول إزاي؟! الحقيقة أنا باقول إن العملية إن احنا دلوقت عاوزين نعيد تنظيم
اللوائح، لأن اللوائح المعقدة هي اللي بتعمل كده، والعملية إن المطلوب منه دفع
رشوة هو اللي يجب يبلغ.. وهي دي القضايا اللي بنمسك فيها المرتشي وبياخد
حكم".
واستطرد الرئيس عبد الناصر في مسألة الحسم بشأن
الانحراف وقال: "... مش لازم أنا عشان أكون أكثر حسما أقتنع إن فلان منحرف..
لازم أقتنع أنه فعلا منحرف.. يعني لما جيت أنا سمعت عن عمليات التصدير والاستيراد
وداخلين وبيدوا فلوس للممثلين التجاريين في الدول عشان يدوهم وما يخدوش من القطاع
العام، أنا اعتقلتهم وعملت قضية مطلعش عليهم حاجة.. مفيش إثبات وفيه كلام يمكن
عندي بالنسبة للبعض قلت لهم ما يدخلهومش في سجل المصدرين.. لكن ما هي الإجراءات
الأكثر حسما؟ العملية ليست بهذه البساطة وإلا كل واحد يكتب لي جواب على واحد تاني
وييجي لي.. ما هو كل واحد متضايق من واحد بيكتب لي جوابات وبيقول لي إنه منحرف
بأبعته لشعراوي جمعة أو لأمين هويدي أقول لهم تأكدوا من هذه المعلومات.. والحقيقة
إذا تأكدت المعلومات 100% بأقدر آخذ الإجراء الإداري.. مقدرش أحبسهم.. يعني
الإجراء الإداري ده أفصله، أما عملية الحبس والكلام ده فأنا لا أريد أبدا أن سلطة
غير القضاء تكون هي السلطة التي تباشر هذه الأمور وإلا يحصل خلل كبير".
ويستطرد الرئيس في توضيح ضرورة التدقيق لمعرفة
الحقيقة فيقول: "وبعدين بنقول فيه ناس بيثروا عن طريق غير شريف.. كل واحد
الحقيقة بيقول لي فيه.. مين همه بأه هؤلاء الناس؟ هل تعرف هؤلاء الناس بالاسم؟ ما
تقول لي عليهم.. لما تقول لي عليهم مش حاخد كلامك بس لأن كل عملة لها وجهين.. أنت
تمثل وجه من وجوه العملة.. أنا بأدور على كلام الراجل التاني اللى انت بتتهمه..
لازم نعمل تحري عليه.. لأن الشكاوي اللى بتيجي ليه مقدرش أنفعل بيها، لأن أنا
بتجيلي بوستة لا أول لها ولا آخر.. ولو انفعلت بكل حاجة وابتديت آخد إجراءات أبص
ألاقي بأخربها في أربع أيام يعني ما يزيدش عن كده! لازم أتأكد بس أبقى ساعات
متنرفز وساعات لما فيه موضوع يضايقني أسيبه أربع أيام لغاية ما أهدأ.. وبعد أربع
أيام أبتدي أشوف الموضوع تاني وأنا هادئ علشان ما أخدش إجراء أندم عليه بعد
كده".
لقد قدمت هذا الاقتباس وبلغته العامية التي سجل
بها في محضر جلسة الرئيس عبد الناصر مع المبعوثين في مايو 1970 يعني منذ 46 سنة،
لأن الكارثة التي نحياها هي أننا- وخاصة من يفترض أنهم نخبة مثقفة أو إعلامية أو
صحفية أو جامعية أو غير ذلك- نعيد إنتاج القضايا والمشاكل نفسها!
فقد تحدث واقعة، وتقدم للتحقيق والقضاء ويصدر
فيها حكم من المحكمة قابل للاستئناف وللنقض، وعندها تقوم القيامة ويبدأ الكلام عن
حتمية تدخل رئيس الجمهورية.. لأنه إذا لم يتدخل يصبح الحكم كله فاشيا ومستبدا وإلى
آخر قائمة الأوصاف.. بل إن كثيرين أظنهم مصرين على أن يتم الخلط بين السلطات إذا
كان الأمر يخصهم، ولا بأس عندهم أن يضرب الرئيس ببقية السلطات عرض الحائط.. ولو
كان الأمر لا يخصهم وتدخل الرئيس يقال على الفور: هذا استبداد.. وانفراد بالحكم
وتغول من السلطة التنفيذية!
إنها كارثة بكل المعايير.. كارثة نخبة لا تعرف
شيئا عن حتمية بناء الوطن وفق معايير لا يختلف عليها إلا متخلف!
نشرت في جريدة الأهرام
بتاريخ 24 نوفمبر 2016.
No comments:
Post a Comment